التخطي إلى المحتوى الرئيسي

( الحديقة الخلفية للرجولة ) تأنيث الفلكلور الشعبي وتحريف القيم التاريخية في الفن التراثي



البندر | عمر علي البدوي

مثل كل الأمم تحتفظ المملكة بألوانها الشعبية وفلكلورها التراثي المتنوع ، إذ تملك السعودية بجغرافيتها الشاسعة وديمغرافيتها المتنوعة زخماً تراثياً متكاثراً من جهة الكم والكيف على حد سواء ، تعبّر المجاميع البشرية عبر أنماط فنونها المختلفة عن هويتها وتمايزها واختزانها لتاريخ وجودها البشري وامتزاجها مع الطبيعة والتضاريس والظروف الزمانية والمكانية التي تعرضت لها .
ولأن ” الرقص ” واحد من الأنشطة الإنسانية التعبيرية المحببة للنفس فهو واحد من أكثر مجالات التعبير البشري شهرة وذيوعاً بخلاف الألوان المختلفة مثل الشعر والمرويات والفنون المختلفة ، وكثيراً ما كان الرقص تعبيراً محترماً في المجتمعات البشرية إذ يوظف لاستعراض مفاتن الأنوثة في رقص النساء ولاستظهار مفاصل الفحولة عند الرجال وذلك عبر صور من انثناءات الجسد التي تترافق مع أداة صوتية ما سواء كان حداء حلقياً طبيعياً أو معزوفة لقطعة وآلة مصنوعة .

وحسب ويكبيديا : فإن ” الفن الشعبي أو الفن الفلكلوري؛ هو إنتاج تلقائي ارتجالي فردي، يقره المجموع ويستسيغه وتحفظه وتتوارثه الأجيال، حتى يصير كجزء ثقافي في العقل الجمعي، بل يصل الأمر بأن يحفظ كموروث بيولوجي من أصل ثقافي، ويختلف الفن الشعبي من حضارة لأخرى.
تتعدد صور الفن الشعبي بين مسموع ومرئي، ويظهر جليا في أهازيج وهدهدة ومناغاة الأم لرضيعها، وحكاوي الأجداد للأحفاد، وأساطير الأمم، وأغاني الأفراح، ويدخل في ذلك الغناء والإنشاد الديني، وأناشيد التحميس التدريبي الرياضي والعسكري والملاحم والقصص، وجميع ما يسمع من غناء تراثي، لا يدعيه مؤلف أو ملحن، يشجي أذن الجميع، ويحرك المشاعر مسموعا، ومنه ما يقر العين مرئيا من تراث معماري شعبي، وزي شعبي ” .


ومثل كل الأنشطة البشرية المختلفة يتعرض الفن الشعبي لموجات التغيير والتطوير ويبقى المحك هو الحفاظ على أصل اللعبة الشعبية حتى أقيمت لذلك المسابقات التشجيعية والاحتفالات الجماهيرية ، ولكن التطوير والتغيير شيء ، والانحراف شيء آخر .
ولأن جنوب المملكة – ومحافظة القنفذة من أشهر مناطقه وأعرقها تاريخياً – زاخر وغني بالتنوعات الثرية فإنه يحتفظ بهويته الفريدة والمنسجمة مع طبيعته السهلية أو البحرية أو الجبلية المختلفة ، ولكن شيئاً من الالتباس والخلط حدث في الفلوكلور الشعبي الرسمي الذي يشيع استخدامه في مناسبات الفرح والزواج وسائر مواعيد الطرب .
طرأ تغيير جذري في الفن الشعبي الذي يشتهر به أهالي وادي حلي والقوز وقطاع من القنفذة المركزية وهو أكثر وضوحاً في الفن الشعبي للرجال ، وهو فن شعبي يرتبط إلى حد بعيد مع الفن المشتهر في محايل عسير وجازان وفيه درجة من التشابك والتداخل ربما كان نتيجة تزاوج الثقافات والتأثير المتبادل بينهما .

حصل بادئ الأمر تغيير على مستوى المفردة واللغة الشعرية المستخدمة من شعر المديح الجاد المباشر والغزل العفيف إلى قصائد غنائية ملحنة أقرب للكسرات التي تواري خبيئة شذوذ عاطفي وتخاطب حبيباً موهماً ، تنشط له النفوس وتخفق له القلوب التي تميل إلى بذاءات عاطفية غير لائقة ، أصبح الشعر الجاف ثقيلاً على الأذهان ومستكرهاً في الأفئدة وكذلك أصحابه ممن انسحب من الساحات وأسلم زمام ” المايك ” إلى نوعية طارئة من الفنانين الشباب .

كما استحدثت آلات على مستوى الأدوات المرافقة مما زاد تكاليف الحفلات ، إذ أصبح مما يلزم أحياناً استجلاب غالب الآلات الموسيقية والمعازف بكافة أشكالها وصنوفها لتزيد من ترخيم اللحن وإضفاء صفة إيقاعية صاخبة .

تغير المفهوم الذي يقوم عليه الفلكلور الشعبي من استكناه قيم الرجولة والنخوة والشهامة لدى الرجال واستبصار معاني الشرف والعفة والخصوبة عند النساء إلى معاني مغايرة تماماً ولا تنتمي إلى الوسط الاجتماعي الذي يحتضن هذه الألعاب الشعبية ، استبطن المجتمع بعض انحرافاته وبثها في الوسط التعبيري الراقص والمزدحم بالتناقضات .

ولنقف على حجم التغيرات التي طرأت استوجب التعرف على الصورة الأصلية للفنون الشعبية ، يشرح محمد بن عايض القرني، وهو ناقد في مجالي الشعر والنثر النبطي لجريدة الشرق الأوسط ، أن «العرضة الجنوبية حالة تطور أو تقليد لحالة تأهب القبائل في الماضي من الأيام للحرب، وهذا أمر يؤكده ما يصاحب هذه الرقصات من سيوف وخناجر وطبول». ويضيف القرني: «لا توجد نصوص في التراث العربي القديم يمكن من خلالها الربط بينها وبين واقع العرضة التي تعرف اليوم. إلا أن الملاحظ بكل وضوح، أن أركان العرضة الأساسية كانت ملازمة للحرب منذ أيام الجاهلية، فالطبول تُقرع منذ القدم في الحرب، والسيف يُحمل، والشعر الحماسي يشكل عنصرا أساسيا من عناصر التهيئة للحرب، وهذا بالضبط مقومات العرضات بشكل عام سواء في الجنوب أو أي مكان آخر من المملكة العربية السعودية» ( ٢ ) .

إلى أي حد يتطابق واقع المناسبات القائمة في يومنا هذا للإيحاءات الأصلية التي ينبغي أن يحافظ عليه فلكلورنا الشعبي ؟ هذا السؤال العريض لن يروي غليله سوى النظر إلى الحال بأسف للمآل الذي تنتهي به مناسبات الفرح والزواج في مجتمعنا .

هذه التغيرات العميقة في بنية التراث الشعبي خلقت مجتمعات مغلقة تتجاوب فيما بينها وتنسجم مع هذه الانحرافات التي طرأت على التراث ، أوجد مجتمعات تصل درجة تطاولها على القيم إلى درجة الشذوذ واستتبع ذلك نشاطاً محموماً على مستوى العلاقات والتواصل وتشاع عن هذه المجتمعات قصص ومواقف ومشاهد يندى لها الجبين ولا تليق بالاستعراض والنقاش .

في سبيل العلاج يمكن لمرسوم أميري سامي أن ينهي المسألة بحبر على ورق ولكنه لا يداوي العلل الدفينة التي تذكي مثل هذه الظاهرة الدخيلة ، لأنها تعيش على أرضية اجتماعية صلبة تمنحها القبول أو مجرد الرضى والسكوت ، اندفع قطاع من المجتمع إلى ممارسة سلوك إبدالي للتحايل على المناعة الاجتماعية القاسية والجفوة العاطفية البائسة .

ليست هذه الظاهرة إلا طفح سطحي لجرح اجتماعي متقرح في أحشاء الثقافة والبنية الاجتماعية ، وحتى لا نميل إلى تغليب اليأس والمبالغة والتضخيم ، فإن الخروج عن القاعدة من طبيعة الأشياء ، والظواهر الاجتماعية السلبية لازمة بشرية ، ولكن المعالجات السطحية والنداءات الخطابية الرنانة لا تؤتي نفعاً ولا تطعم حلاً ، ولذا كان من العقل والرشد أن تعالج المسائل من جذورها وتستنبت الحلول ببذورها .


*************************************************************

( ١ ) : موسوعة ويكبيديا الحرة .
http://ar.wikipedia.org/wiki/فن_شعبي

( ٢ ) : العرضة الجنوبية فلكلور شعبي سعودي يؤدى في حفلات الزفاف والمناسبات / سلطان العقيلي – الشرق الأوسط .
http://www.aawsat.com/details.asp?section=67&article=683984&issueno=12267#.UpKBr38gGSM







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت...