أحدثنا جلبة أمام طاولة الحساب في واحد من مطاعم جدة الفاخرة ، أنا
واثنان من أصدقائي نتعارك حول دفع الحساب على عادتنا الاجتماعية النبيلة والكريهة
أحياناً .
انتهى العراك الملحمي على نتيجة ارتضيناها وخرجنا من المطعم متخمين
وبخطوات متثاقلة من شدة ما أكلنا وطعمنا ، وفوق هذا نتبادل كلمات الكراهة لمذاق
الطعام وطريقة طبخه التي لم ترق لنا ، ولكن " تورّطنا " !
خرجنا غير آبهين والوقت يقترب من ساعات الفجر الأولى ، فما زال في
الوقت بقية ، والجدول يزدحم بالمشاوير التي نقضيها تزجية للوقت وقتلاً للفراغ .
خطوات قليلة تفصل بين باب المطعم والسيارة ، وما كدنا نصل حتى
استوقفنا مشهد يقطر ألماً ، توقفت لحظات طويلة وأنا أرمق ذلك الطفل المسجى على
عتبة محل تجاري .
طفل ممدد على جانب الطريق وغارق في نوم عميق ، وفي يده بقايا بضاعته
التي يرتزق منها ، حلاوة الإسفنج المصبوغة بلون وردي صناعي ، اعتاد الأطفال بيعها
أمام الإشارات ، تسد شيئاً من رمقهم وتكفيهم ذل السؤال ، وربما اشتراها بعضنا رأفة
بحال الطفل لا رغبة في بضاعته .
بطريقة أقل ما يقال عنها أنها خلاف الإنسانية التي يتطلبها الموقف ،
أسرعت إلى جيبي والتقطت صورة ساخنة لهذا المشهد من كاميرا الجوال ، رمقتني امرأة تجلس
في سيارة مجاورة بانتظار زوجها ، شعرت بكثير من الخجل ، يبدو أن المرأة كانت تنظر
بعين أمومتها العميقة بينما أمارس إلى جانب أصدقائي دوراً سطحياً ساذجاً .
كان الطفل مستغرقاً في النوم وقابضاً بكلتا يديه على بضاعته التي فيها
معاشه ، لا أعرف إذا كانت هذه نومته كل مساء ، إذ لا مأوى ولا قرار ، أم ابتلعه
الإرهاق والإنهاك وجعله ينام كيفما تيسر له .
المطعم الذي قصدناه يقطن في واحد من أحياء جدة الراقية ، والحقيقة في
جدة لا تعني كلمة " حي راقي " المعنى المعروف لها ، ولكن يسكنه غالبية
ذات دخل عالي ، بمعنى أنك تقف على حجم تناقض صارخ يمكن أن يفتعله الإنسان على وجه
الأرض ، يمكن أن يكون راقياً وبشعاً ، سعيداً وشقياً في آن ، لطيفاً وبشعاً ربما .
دار في خلدي كثير من الأفكار وجال بخاطري عديد من الكلمات والمشاهد ،
وأنا أمام مشهد طفولي تحمّل مسؤولية تجاهل الإنسان لأخيه الإنسان ، لمع في قلبي
شعور ينطوي على تأنيب داخلي ، شيء من تقريع الضمير ، شعرت بحجم تضاؤل مشتهياتي
أمام هذه القسوة التي يعانيها طفل مثل هذا .
كتبت غير مرة في شأن المغلوبين ، أحياناً نكتب من أجل أن نتخلص من الشعور
بالتقصير تجاه غيرنا ، نتجاوز سؤال الأخلاق في داخلنا ، نخوض عملية تسوية مع
مبادئنا الفاضلة الأولية والمثالية ، ثم نستعيد جموحنا الإنساني ونمارس تجاهلنا
للحقائق المزعجة .
أيها الأصدقاء : كونوا نصيراً للمغلوبين !
تعليقات
إرسال تعليق