التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سعوديون ينصبون «بيوت شعر» في مداخل المدن لتقديم القهوة العربية



< تتنافس محطات الطرق السريعة في زرع محال القهوة المستعجلة بانتماءاتها الجغرافية المختلفة، ويصطف قائدو السيارات في طوابير، لطلب أكواب النكهة، فـ«ريحة أبو زيد خير من عدمها» كما يقول أحد مدمني القهوة. فيما دخلت القهوة التي تُعد بالطريقة العربية على خط منافسة الأجنبية.
وعلى رغم طبيعة القهوة التي تتطلب كثيراً من الوقت لتعد بعناية وعلى مهل، قبل أن تستوي مشروباً ناجزاً لعاشقيه، إلا أنه في ظل تسارع الحياة أصبح بمقدور عشاقها ارتشاف قهوة لا يستغرق تجهيزها كثيراً من الوقت، ولا ترهقهم بالانتظار طويلاً، لتصل أمزجتهم بطيف من رائحتها المحمصة.
اليوم، أصبح هناك فرصة للالتقاء في منتصف الطريق، وترميم معادلة الوقت وإعداد القهوة عبر مشروع تجاري بدأ ينتشر بشكل ملاحظ مزاوجاً ثقافة الصحراء الأصيلة والمدنية الوافدة. ويبدو وكأن ثقافة العصر السريعة أصبحت في ضيافة البدو الآن، تنتصب خيمة الشعر في مداخل المحافظات الجنوبية مثل بوابات تستقبل وافديها، وأخرى وسط المناطق تقدم فرصة للانتظار اللائق بالمسافرين غير المقيمين، لقضاء مشاوريهم القصيرة.
وهي مثال على المشاريع المبتكرة، فمع تكاثر «المقاهي السريعة» بأسماء القهوة الغربية والغريبة، فكرّ شبان سعوديون أن القهوة العربية المهيلة تحتاج هي أيضاً إلى مكان، وليكن بيت شعر كبير نوعاً ما، وجلسات عربية أنيقة تحمل في أقمشتها زخرفة صناعية، تذكر بنقوش الماضي، وتضفي مؤثراً بصرياً.
وتحاول القهوة العربية بعد إضافة طابعها السعودي لتصبح «المهيلة»، أن تزاحم شقيقاتها التركية والأوروبية على اختلاف الجنسيات، محلياً على الأقل، إذ يصعب التنبؤ بخروجها إلى العالمية، وإن كان ذلك وارداً، إلا أنه ينتظر هذا المشروع تحقق شروط موضوعية، تمكنها من بلوغ درجة من الرواج العالمي، وتقلص حجم التفاوت الحضاري في تناول خصوصيتها.
ولمزيد من تأكيد خصوصية المشروع ومحلّيته، تترافق في بعض «المهيلات» أطباق من المنتجات المحلية، مثل «معمول التمر» أو «الكليجة»، وأحياناً أخرى وجبات الكنافة والحلويات على تباين أشكاله وصنوفه.
وفي البداية كان المشروع خجولاً، إذ ظهر وكأنه جمع متضادات بشكل غير مستساغ، كأن تنصب مضافة للقهوة في عرض الطريق أو وسط الشارع، فالقهوة لدى العرب لها تقاليد المقدّرة، ولا يمكن العبث في رمزيتها عبر مشروع تجاري غير مأمون النتائج. ولكن الفكرة اتسعت ولاقت رواجاً، وربما غمرت ثقافة المقاهي السريعة الوافدة.
ويُعتقد أن «المهيلة» أول ما ظهرت في مدينة مكة المكرمة قبل أن تنتشر في بقية مناطق المملكة. ويعزو بعضهم الانتشار السريع والواسع لهذا المشروع إلى كونه يعبر عن منتج ذي شعبية محلية يقدم بطريقة ميسورة ومريحة. وأخرج الطبع المنزلي إلى الشارع في صورة استجابة فطنة وذكية لحاجات المجتمع الآخذ في الاتساع والاعتبار بتقاليده الاجتماعية المشهورة.
ويبدو أن «سيرة القهوة» مع مكة المكرمة لها قصة تاريخية وملتبسة، إذ وحسب ما أورده الباحث سعيد السريحي في كتاب يحمل العنوان نفسه أن القهوة - وهي للمفارقة تطلق الآن على أماكن لا تقدمها للزبائن – بدأت في محيط الحرم، وأنها كانت مرتبطة ببعض السلوكيات التي أثارت توجس رجال الدين، ما دعاهم إلى الوقوف في وجهها وإعلان تحريمها.
الأمر نفسه حصل مع خِدن القهوة الأثير، وهو الشاي الذي انتشر في مناطق التجمعات والوجهات السياحية، عبر مشروع أصبح ذائعاً الآن، وهو «أكشاك شاي الجمر»، وهي طريقة بدائية تقتطع تقليداً صحراوياً معروفاً في عمل الشاي على الجمر، ويحتفظ بالطعم الذي تودعه فيه أعواد الحطب المحترق.
على طريق الساحل (غرب السعودية)، يستوقفك عامل مصري تموضع حيث يجتمع المارة قاصدين مناطق مخضرّة شرق محافظة القنفذة، يقدم العامل أكواب الشاي على الجمر، وأعواد الذرة، لكنه يقدم خدمة مميزة أخرى، وهي امتناعه عن أخذ مقابل لأكواب الشاي التي يبتاعها على أفراد الجيش السعودي، وهم في طريقهم إلى المناطق الجنوبية للمشاركة في الحرب التي تشنها السعودية على المتمردين الحوثيين.

أصبح أبو محمد الآن يلتقي برفقته هناك، يفضل «المهيلة» هروباً من المقاهي التقليدية التي تقدم «الشيشة»، قبل أن يقلع عنها تماماً استجابة لنصيحة طبيبه. ولم يتوقف عن الخروج مع رفقته، ولكن هذه المرة في «المهيلة» القريبة من منزله، وفي جلسة أريحية على الأرض تتوسطها دلال القهوة وطبق التمر والطحينة، يتبادلون أطراف الحديث الذي تغلب عليه السياسة هذه الأيام.
في الجلسة المقابلة، يجلس علي الغانمي وشباب حارته، يشاهدون باستمتاع نهائي كأس ولي العهد بين فريقه المفضل والفريق الآخر الذي ترتفع شعبيته وسط المجموعة، لا يبدو هتافهم مزعجاً لجيرانهم، فالحواجز الفاصلة تمنع تمدد صخبهم أبعد من جلستهم الصغيرة.
العم أحمد عبدالله يزور «المهيلة» ليملأ ثلاجته الخاصة، ثم يمضي في طريقه، ولكنه يرفض مطلقاً مجالسة ضيوفه هناك، إذ يعد ذلك نقصاً في واجبات الضيافة التي تلزم المرء إنزالهم بيته ولو ضاقت ذات يده وقصر عن الوفاء لمقدمهم وكرر «الجود من الموجود».
والسعوديون عاشقون للقهوة سواء ارتبط هذا بسيرتها غير التقليدية كعادة السعوديين مع أشيائهم المرغوبة، أم بحجم انتشارها في المجتمع كتقليد رمزي ومشاع للضيافة، إذ نظمت في العاصمة الرياض نهاية العام الماضي الدورة الثانية للمعرض الدولي للقهوة والشوكولاته، وكانت النتيجة «الطلب يفوق العرض».



الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...