التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بائع العربة الذي أصبح " سلفياً " !




تخلى عن دراسته في بلدته اليمنية المعوزة وغادر إلى حيث يجد فرصة عمل في مدينة جدة ، وهي المدينة المفضلة للأفراد غير المؤهلين ممن يتولى الوظائف التقليدية .
هذه المدينة مأوى للتقاليد الوظيفية التي تأتي مع أصحابها من بلدانهم المتنوعة ، ولذا ستجد اليمني والمصري والهندي يكسب قوته بطريقته الخاصة ، وهذه عادة المدن المنفتحة والقابلة لهضم الثقافات ولو أعسرت .
لم يكلف الأمر صاحبنا أكثر من عربة خشبية بعجلات مستهلكة ، يتبضع لها مما لذّ وطاب من " حلقة الخضار " ليعود ويبيعها أمام المساجد الكبيرة المكتظة بالمصلين والمتسوقين كذلك .
أصبح مع الوقت وجهاً مألوفاً لجماعة المسجد ، رغم ازدحام المنافسين إلى جواره لكنه ولخفة ظله وقدرته على بناء العلاقات استطاع أن " يأكل الجو " وربما كان هذا لغرض تسويقي وربحي .
ولأنه يقتنص أوقات الصلاة ، فهو مضطر لأدائها متأخراً حتى يحمي عربته ، أو يعطي نفسه فرصة الصلاة في الصفوف المتأخرة واللصيقة بباب الخروج وباب رزقه ، وعلى العموم هي طريقة ترتيب شخصية بين المصالح والمبادئ .
كان يربح بشكل مقنع ، على الأقل يتوفر لديه الدخل الذي لا يمكن تحصيل أفضل منه ، أوقات الفراغ يقضيها في التعرف على هذه المدينة وأهلها ، ففي نفسه بعض روح الشباب الذي لم يجد فرصة الاستمتاع به ، الظروف والحاجة استعجلته إلى تحمل المسؤولية .
لا يعكر صفو حياته العملية إلا عمليات دهم الشرطة التي تمنعه من العمل غير النظامي ، رأيته مرة يبكي من شدة الهلع بينما يحتجزه الشرطي في أحد الدوريات ليقله إلى المخفر ، عاد بعد ذلك للبيع بشكل طبيعي ، ولا أعرف ماذا حدث بالضبط ؟!!
كان يحب قراءة القرآن بعد صلاة العصر ، وأنت تمر بجانبه تسمع قراءة مجيدة وترتيلاً ينال إعجابك ، في الفترة الأخيرة أصبح يقرأ بشكل مكثف ، أحياناً يبدو وكأنه يحاول حفظه مع معاون آخر في المسجد .
كان التحول يحتاج الوقت فقط ، فلديه فيما يبدو الاستعداد والحماسة والبيئة ، بحصوله على الوقت اختفت عربته من أمام المسجد وغاب هو عن الأنظار .
ثم ظهر فجأة على غير الحال التي كان عليها ، أصبح يقصّر ثوبه ويطلق لحيته ويلبس الشماغ بدون العقال على عادة المطاوعة عندنا ، كانت التفاصيل الدقيقة بادية عليه ، من بينها عود السواك يشرف من جيبه العلوي بمسافة قصيرة .
ما زالت روحه نشيطة رغم استضافته لمعنى جديد في حياته ، وهو معنى جاد وصارم ، استوقفته للمرة الأولى في تاريخ علاقة طويلة من التشاوف غير الفعّال إذا كان هذا تعبيراً كافياً للفهم ، إذ يبدو أنني مصاب بداء اختراع المصطلحات في الفترة الأخيرة .
بالأحرى ابتدرني هو بالحديث ، إذ يبدو أن هذا المعنى الجديد في ضيافته يفضل هذا النوع من مباشرة الكلام ، لعل فرصة تسنح بالنصيحة وهداية الناس إلى الحق .
أصبح طالب علم متواضع كما يسمي نفسه ، درس لبعض الوقت في الحرم المكي والنبوي ، يقرأ في كتب الشريعة ويستمع الكثير من المحاضرات .
هو عاطل عن العمل إلا من طلب العلم ، وإذا احتاج لبعض المال فإن " الإخوان " يوظفونه مؤقتاً ليساعد في ترتيب بعض المكتبات التجارية وتوظيبها بمقابل لا بأس به .
ردد كثيراً في حديثه لفظة " السلفية " وفضلها ، والاهتمام بنقاء العقيدة ، وبصفاء الأفكار والبراءة من غيرها الدخيلة .
حديثه مشحون بالآخر ، وهو هاجس سلفي معروف ، وكأن صواب موقفها وصفوه متوقف على كدر الآخر ودرجة انحرافه عن الجادة .
من الواضح جداً عليه حماس البدايات ولذة انشغالاته الجديدة ، كان كلامه مربكاً وغير منتظم السياق وكأنه لا يحدث بصورة طبيعية ، تغيرت طبيعة نشاطه في البلد الذي جاءه عمداً لطلب الرزق وضمان معيشة أهله ، في حال توقف عن هذا الدور ماذا يفعل أهله ، هل وقعوا على نصيب من إرث أحد أقربائهم الأثرياء ؟
أوقفت سيل حديثه الرومانسي بسؤال حالته الاجتماعية فنكص على عقبيه .
النكوص بمعنى أن حديثه أصبح أكثر واقعية ، إذ يبدو أن المعنى المنضاف إلى حياته ما زال في مرحلة الأفكار ولم يصل إلى مستوى الطباع الخفيضة .
كال التهم لعمه الذي سعى لإفساد زواجه ، همومه الاجتماعية لا تليق بمشروعه الشخصي الجديد ، ولكنه الواقع وسلطته الحادة .
تخلص من السؤال بطريقته وعاد ليعيش دوره الجديد مزهواً بسلفيته النابتة .
ليس لديه أفق للمستقبل أو فكرة حوله ، يتسلح بأدوات فرضتها ظروف التحول ، ولكن لا يعرف إذا كان هذا نافعاً لقوت أو نجاة بعد موت .
إذا وصلت إلى هذه النقطة من السطور ، فإنك أزهقت بعض وقتك في قراءة قصة لا تخرج منها بفائدة ، نفس الأمر بالنسبة لكاتبها .
ولكن لو قدر لهذا الشاب أن عاش في دبي مثلاً ، ربما أصبح رجل أعمال ثري يملك سلسلة محلات شهيرة لبيع الخضار ، لو عاش في أوروبا ربما يصبح وزيراً في واحدة من حكوماتهم المتعاقبة ، في أمريكا سيصبح رئيساً وربما متشرداً يتسكع في شوارعها المظلمة ، في بلدنا هضمناه وأضفنا للكوكب " سلفياً " جديداً .
شعور جيد 😅

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...