الخطاب المنبري الوعظي الذي كثفت الصحوة من استخدامه يتحرك في الأرض منزوعا من واقعيته، يستفز النموذج المثالي المنشود ويحفز الجماهير على ملاحقته ومطابقته.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 27/02/2015، العدد: 9841، ص(9)]
كانت “الصحوة” أيام ذروتها في السعودية تستخدم كل الوسائط المتاحة لتصل رسالتها إلى قطاعات شعبية أوسع، وكانت المحاضرات الجماهيرية المفتوحة وأشرطة الكاسيت تغزو المحلات والبيوت والمركبات، تحمل في طيّاتها رسالة الصحوة المكتنزة بكل أنواع الإثارة والتشجيع والتحريض على “التقوى”.
اليوم أصبح واضحا انحسار الفعاليات الدعوية الجماهيرية، انخفض حماس الناس لحضور المحاضرات، كما أن منصات التواصل الافتراضي وتسارع المنتجات التقنية سحبا البساط من تأثير الكاسيتات، بل لحق التطور خطاب الصحوة نفسه الذي اشتغل على توظيف الشبكات العنكبوتية لتجديد قبضته على قطاعاته الشعبية.
حتى قنوات الفضاء جاءت فتحا على الصحوة بعد عقود من الهجوم، وسارعت إلى إطلاق محطة فضائية ملتزمة بالحدود الدينية للعمل الإعلامي، وما زالت القناة منذ أكثر من عشر سنوات تحافظ على نمطها التقليدي، رغم تراجع شعبيتها وتسامح المجتمع مع تحفظاتها، وبقيت المحطة قابعة في طورها القديم، بينما يتقدم الوعي إلى مستويات لم تعد تستجيب معها لدعايات الصحوة.
وبالعودة إلى الكاسيت وسطوته على المشهد، فإن كل بنى التدين الاجتماعي تلاشت مثل صرح من خيال فهوى، ضخّ مخيال الدعاة كل إمكاناته الإنشائية واستخدمت آلتهم الكلامية أقصى قدراتها البلاغية لتشييد أركان الإيمان وتوثيق عرى التقوى في النفوس والأذهان، ولكن الخطاب الذي يسكن الحناجر لا يمكن أن يتجاوز إلى التأثير في الواقع إلا تأثيرا لحظيا سرعان ما يتلاشى.
الخطاب المنبري الوعظي الذي كثفت الصحوة استخدامه يتحرك في الأرض منزوعاً من واقعيته، يستفز النموذج المثالي المنشود ويحفز الجماهير على ملاحقته، وقليلا ما يقيس تأثير الظروف المحيطة وقابلية النفوس للاستجابة لخطاب وعظي هش.
اعتمد الخطاب الشفاهي على المنابر والمنصات والكاسيتات والتضخيم في حياكة القصص التي تصل درجة الكذب والخلق والتلفيق أحيانا ولأغراض نبيلة دائما، وهذا ليس خافيا بعد أن لامهم في ذلك أكثر رموز المشهد الصحوي شعبية في الساحة.
وعلى مستوى التخاطب مع القطاعات الثقافية التي تمسحت بالليبرالية والانفتاح، كانت الرسائل هجومية ناقمة ولم تنحُ باتجاه النقد العلمي أو النقاش الجاد، واستخدم التكفير والإقصاء مظلة فضفاضة للاستبعاد والإلغاء، ولم تتدرب مجاميع الصحوة على أبسط قواعد النقد الموضوعي والمواجهة العلمية المقننة، وبقيت مأخوذة بالشعارات والأحكام القاطعة على علّاتها وانحيازاتها.
الحالة الشفاهية للصحوة، ولأنها لا تتطلب متانة علمية ودراية كفائية بشؤون المجتمع والدين والدنيا، أسهمت في تصدير رموز خاوية إلا من جهْوَريّة الصوت وقوة الحناجر، وبدأ الضوء مسلطا بلا انقطاع على ظواهر صوتية عبثت بالعقلية المجتمعية، وانحسر حضور كفاءات دينية عاقلة وجهبذية كان بمقدورها أن تسهم في بناء المجتمع.
من أجل أن يحصل الواعظ على اللحظة الحرجة التي يستطيع فيها التأثير على الجمهور، فإنه بحاجة إلى النفخ في تصوراته الجهنمية، وزيادة مستوى توتر الجماهير ليأخذهم في رحلة التصديق من قاع الجهل الماحق إلى سفح اليقين المتجاوز، يبالغ في تصوير المنكر وكأنه بوابة إلى الجحيم وخطوة باتجاه التهلكة، غضب سماوي ينتظر على شفير المعصية، الشيطان يحيط من كل جانب، أبالسة الإنس يترصدون للإيقاع، الفضائيات بريد الشيطان والغناء سفير المردة من الشياطين والجان، المرأة طريق إلى العذاب، الخوف عليك ومنك ومن كل شيء. بينما الإنسان ضعيف مستسلم لشهوته، مستلب من أعدائه الذين يتقصدونه للشر، يدفعونه إلى الباطل، وهو لا يحسن التصرف ولا يقوى على الحراك، وهكذا في خطاب جامد يهشم الثقة في النفس، فالمغريات أشد بأسا والشهوات أقوى حولا وطولا، والإنسان منهزم أمام رغباته، خائر القوى إلا من معيل صحوي يرعاه ويتبنى دينه.
جاءت الصحوة بغرض إحداث تغيير في المجتمع عبر تديينه، ولو قسرا، لاستنهاض دوره في إعادة المجد لهذه الأمة المنهكة في مؤخرة الأمم والحضارات، ولكن أصبح المنتج الصحوي فيما بعد هشا وغير متماسك، لأنه اعتمد أداة التغيير الخطأ، التعبئة اللحظية، وحمل المجتمع إلى الصورة النهائية الفاضلة التي اخترعتها الصحوة دون توظيف لبنى وأدوات البناء الاجتماعي العلمية والمعتبرة.
دعنا نعترف أن ثمة قصور اجتماعي نبت على سطح المجتمع، التقنيات الجديدة ومشاريع التنمية المستعجلة ولعنة التواكل النفطي وضعف فرص التعبير والانقباض الاقتصادي، تشارك في مسؤولية الواقع الاجتماعي المتذبذب. وهذا يذكر بمسؤولية الصحوة التي انفردت بالمجتمع لعقود، واشتغلت على مداواة كثير من العيبات والقصور الاجتماعي، لا أثر يذكر لكل هذا، إلا مزيدا من الاستقطاب الثقافي الذي ينشغل ببعضه وينسى المجتمع متروكا للفراغ.
علينا أن نعيد التوازن إلى القطاعات المختلفة، من الضروري أن تتحرر ميادين الثقافة والفكر والتعبير الاجتماعي من قبضة طيف أوحد، وأن تتحرك بارتياح في فضاء المجتمع لأنها تحب أن تعيش في الحرية، وتمطر على الأرض فتنفع البلاد والعباد.
كاتب سعودي
الرابط :
http://www.alarab.co.uk/?id=46229
تعليقات
إرسال تعليق