بعض المدارس الفكرية التجزيئية، سواء كانت حركات إسلام سياسي أو توجها ليبراليا، تحمل طموحات لا تطيقها القاعدة الشعبية، ولا تنتويها الخطط الحكومية.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 14/02/2015، العدد: 9828، ص(9)]
تدفقت مظاهر الاحتفال بإعفاء رئيس الهيئات السعودية عبداللطيف آل الشيخ، واتخذت أشكالا مختلفة بين توزيع مشروبات مجانية في مقهى محلي وتقطيع كعك في مقار الهيئة أو نحر الأنعام لإظهار الفرح والاستبشار بمغادرة الرئيس الأكثر جدلا في تاريخ هذا الجهاز الديني.
منذ عقود وهذا الجهاز يحتل صدارة معركة بين قيم وتوجهات متباينة في المشهد السعودي، وباعتلاء آل الشيخ المعفى مقعد الرئيس انتقلت هذه المعركة من الخارج إلى الداخل، وتحولت من خلاف فكري وتياراتي بين الكيان ومنتقديه ممن يشتغل غالبا في إطار الصحافة، إلى خلاف مدارس داخل الكيان ذاته، وكأن حالة الانشقاق تجذرت إلى حد يهدد تماسك الجهاز وانسجامه، في صورة كاشفة عن تعمق الخلاف حول هوية الجهاز ودوره في ظل حراك محموم وموجة تمور بالتحولات الجذرية والطفيفة على المستوى المحلي والدولي.
جاءت مظاهر الاحتفال بإعفاء الرئيس تعبيرا عن اعتقاد منفعل بانتصار طرف على آخر، وكأن المرسوم الملكي فهم بالخطأ، واجتزئ هذا التفصيل من جملة التغيير الكبيرة التي طرحها العهد “السلماني” الجديد، وطارت بمقاعد عدد لا يستهان به من الوزراء وجاءت بطاقم عمل جديد. ستختفي هذه المظاهر مثل غيرها من الظواهر العابرة التي تتشاغل بها التيارات التي بدت وكأنها تتفرغ للانتصارات الصغيرة، ولا تحمل أي فكرة عن مشروع للعمل والبناء داخل منظومة الدولة أو خارجها، وستظل التحركات الرسمية متاحة للتفسيرات التعسفية في محاولة لجرها إلى ساحة الصراع الفكري والتياراتي وتحميلها فوق ما تحتمل من التفسيرات، يساعد في ذلك أسلوب عمل حكومي غير مفهوم غالبا، ولا يعنى بإبداء تبريرات للرأي العام الذي يختصم لخلق شروحاته من وحي استكناه أقصى ما يمكن من المعلومات المسربة والشحيحة.
يبدو أن الحكومة تخوض معركتها المستقلة، بينما تعيش الطوائف الفكرية داخل النسيج الاجتماعي حروبها الخاصة، وهذا لا ينبئ عن مشروع عمل استراتيجي للمستقبل يجمع الطيف السياسي والشعبي كشرط تصالحي لتحقيق المنشود، وهو خطأ تواصلي تتحمل مسؤوليته أنظمة الإعلام الرسمي المثقلة بالرتابة والبرود.
كما أن بعض المدارس الفكرية التجزيئية، سيما ذات الأهداف القصيرة، سواء كانت حركات إسلام سياسي أو توجها ليبراليا، تحمل طموحات لا تطيقها القاعدة الشعبية، ولا تنتويها الخطط الحكومية، تزيد من حدة الخلاف وهي تتخاصم على حصص الفضاء الضيق المتاح لتحركهم.
جاء الرئيس المعفى آل الشيخ في وقت كانت المؤسسة في حاجة إليه، وجاء كجزء من توجه إصلاحي تطلبته مرحلة بناء طموحة، ولما جاءت النتائج بغير المأمول تطلب تغيير طابع الرئيس بما يوائم مرحلة جديدة تأنف من البيروقراطية المثقلة وتخفف من حدة التشاغل التياراتي إلى عمق العمل المؤسسي.
لا يمكن القطع بوجود نية جادة في إصلاح هوياتي وبنيوي لهذه المؤسسة من داخل الحكومة، بل يتأثر ذلك بالأساس بحجم استعداد الطيف السياسي الذي يرتقي إلى سدة حكم البلاد، وعن استجابات متفاوتة لأحداث الواقع لا تتجاوز مجرد قرارات متسرعة واحتوائية أكثر منها نية في مشروع إصلاح حقيقي ومكتمل.
ورغم الخلاف على تفسير سلوكيات الحكومة ومحاولة استنطاق قراراتها على أنها انتصار لطرف دون آخر، ما زالت المؤسسة تراوح محلها وتعاني جنس التحديات التي تواجه بقية أنظمة الدولة.
لا يمكن إنكار أن الرئيس المعفى جاء بحزمة نوايا وخطوات جادة لإصلاح الجهاز بعد عقد من الحدة الصحفية تجاه أخطاء هذا الجهاز، التي تنتج غالبا من كونه مؤسسة حكومية تشبه سواها في الاجتهاد البشري والأنظمة الإدارية المرتبكة، وأحيانا من لبس دور الجهاز وإرثه التاريخي المثقل بشروط الماضي. ولكن الحقبة الإصلاحية اصطدمت بمجموعة من العقبات التي أثرت على فعالية المشروع، ولعل أبرزها حجم الممانعة القوية داخل الجهاز ومحيطه الشعبي والثقافي الذي يوالي مبادئه التقليدية، استخدمت منظومة أسلحتها المعتادة وعلى رأسها عملية التشويه والتخوين ضد الرئيس آل الشيخ. بدأت المخاوف من حقبته الماضية منذ تسميته رئيسا للهيئات، إذ اجتر الناشطون دراسة شرعية قديمة له حول “الاختلاط” الذي يحتل ضمن موضوعات أخرى أيقونات للتصنيف.
وفي ظل ثقافة اجتماعية تقدس الشخوصية جاء “آل الشيخ” بكل رمزيته الاسمية لتحمي خطواته الإصلاحية وتشفع لنواياه بالصدق والنزاهة، ولكن زيادة الهجوم مع كل خطوة لغرض الإصلاح والتصحيح، وصلت بالخلاف درجة مزعجة ومعطلة. اليوم وبإعفاء الرئيس الجدلي لجهاز لا يقل جدلا، يستمر جريان الممانعة بدفق أكبر، وكأن المشروع يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد لإعادة إنتاج هوية منسجمة للجهاز، قبل التفكير في خطوة الإلغاء الطموحة التي يطالب بها بعض المهووسين بالحلول الجذرية الرومانسية.
كاتب صحفي سعودي
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق