لم تكن وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رحمه الله - مجرد حدث محلي أو موجة حزن اجتماعي عصف بالسعوديين وحدهم ، بل كانت حدثاً عالمياً بأوجه متعددة ، ألقت بظلالها على الواقع السياسي بحدة أكبر . زاد من وقع آثاره السياسية حجم التأثير الذي يتركه التغيير داخل السعودية على الأوضاع الدولية والإقليمية ، سيما في ظل مرحلة صعبة تعيشها منطقة الشرق الأوسط بعد انتفاضات الربيع العربي وتبعاتها الضخمة ، إذ كانت السعودية في القلب منها .
يمكن حشد مجموعة من الدلائل المتظافرة على قوة مشهد وفاة الملك السعودي ، في مقدمتها حجم الوفود الرسمية التي تدفقت لحضور مراسم الدفن أو تقديم العزاء للأسرة السعودية المالكة ، انتهاء بالنشاط الإعلامي والسياسي الذي تناول الحدث من زوايا التحليل المختلفة . ولكن مشهد انتقال الحكم بسلاسة من الملك الراحل إلى الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز اختطف الأضواء ونقل مجرى الكلام والاهتمام إلى فعالية السياسة السعودية المحكمة للحفاظ على مكتسب " الاستقرار " في عمق البلاد .
خارت كل التكهنات التي كانت تستبق المخاوف وتستبطن نوايا رغبوية للإخلال والانتقام ، تغذيها علاقات غير سارة مع جوار استعدائي ، يعتقد عبثاً أن السياسة السعودية تدخلت في إشعال فتيل فتن داخلية وأنها نصير لأطراف على أخرى ضمن استقطاب مزعج يفتك بالوئام الأهلي لبعض الدول .
ولكن بضاعة الرهان على ارتباك السعودية بارت وولت إلى غير رجعة بمجرد الإعلان عن ترتيب البيت من جديد ، وذهب الترتيب لأبعد من الظن القاصر عندما تم تنصيب الأمير محمد بن نايف في مقدمة الصف الثاني والحاكم المنتظر والمؤهل من دفعة الأحفاد .
تزيد قيمة " الاستقرار " كمطلب للتنمية والبناء في الشرق الأوسط لأسباب مجتمعة ، فهي دول نامية على صعيد المؤسسات الدولاتية ، وتعاني ضعفاً في الجوانب الخدمية والبنية التحتية ، وهشاشة في الاستعداد الثقافي والاجتماعي ، مما يتطلب حالة من الاستقرار المستديم لمعالجة ظروف التواضع المادي والثقافي للدول والمجتمعات .
ويختلف الاستقرار كحاجة لتنمية مستدامة تنتج مجتمعاً ناهضاً ودولة مستعدة لطموحات سياسية فائقة ، عن الأمان الذي تفرضه أجهزة الأمن المتضخمة وحالة العسكرة التي تحمي دولة مهلهلة وتطبق على مجتمع تنخره الحاجات الملحة والآمال المختنقة . وهذا يعني أن يكون الاستقرار نتيجة عقد شرعي ناجز أو مجازي ينظم علاقة الحاكم والشعب في إطار مريح ومرضي للطرفين .
ولأن الدول العربية لم تظفر بتجربة ديمقراطية جادة وحقيقية بوصفها طريقة عمل وحكم أثبتت نجاحها ، فإن الجمهوريات العربية ما بعد الاستعمار أثبتت فشلها وإخفاقها الذريع ، فهي إما انتقلت إلى حكم عسكري بائس أو نظام علماني فاسد .
ومع موجة الربيع العربي أثبتت هذه الجمهوريات مزيداً من الفشل والإخفاق وتحركت الشعوب بدافع البحث عن عقد عمل جديد مع الحكومات يحترم الحرية والكرامة ويقر العدالة الاجتماعية ، في المقابل حافظت الملكيات العربية على استقرارها وتماسكها ، بل أثبتت في بعض الحالات - الخليجية والسعودية بالتحديد - كثيراً من الإصرار على التمسك بالنظام وإبداء الولاء له بدافع الحب أو الخوف من العواقب المؤسفة للتغيير ، ساعد على ذلك النتائج التي حققتها الملكيات العربية على صعيد التنمية ورفاه الشعب من واقع الثروات التي أعطتها مزيداً من الأمان والاستقرار الذي منحها كثيراً من الزخم .
ولأن المجتمعات العربية لم تحظى بعد بالتأهيل الكامل للاستجابة مع أدوات ديمقراطية متقدمة ونظام حكم دستوري حداثي كما هو في دول العالم الأول ، تبدو الملكيات المستقرة حلاً ناجعاً حتى الآن ، سيما إذا ترافق مع نوايا جادة للإصلاح والتنمية باتجاه مشاركة أوسع لقطاعات الشعب وهو ما كانت تسير عليه السعودية في عهد الملك الإصلاحي الراحل عبد الله بن عبد العزيز – رحمه الله - ، وكانت الوتيرة تسير بشكل تراكمي منذ الملك المؤسس بالنظر إلى حجم المعوقات الدينية والثقافية والاجتماعية التي كانت عليها البلاد في أوائل عهدها .
تمتاز السعودية بعلاقة حميمة بين الشعب والقيادة ، أنتجتها سيادة الأعراف الاجتماعية في الواقع المحلي ، والتواصل المنفتح بين الأسرة المالكة وقطاعات المجتمع المختلفة ، ولعل التأثير البالغ الذي تركه رحيل الملك عبد الله في نفوس العامة يكشف عن جانب من حقيقة هذه العلاقة الأثيرة .
المحيط العربي الآن يشكو مجمله من تأثيرات الربيع العربي الذي جاء كانشقاق حاد بين الشعوب وأنظمتها السياسية التي اختلقت أشكالاً من الأنظمة الهجين بين الجمهورية الشعبية والديمقراطية الصورية والعسكرة الحادة ، وما زالت الشعوب تعاني من فتن ماحقة ، حازت الدول الثائرة على أكثرها فتكاً في صورة حروب أهلية وطائفية مقيتة ، مما ضاعف من قيمة الاستقرار للحصول على مجتمع مستعد للديمقراطية ، أو دولة مؤسسات قادرة على استيعابها ، وبنية تحتية تؤمن العيش الكريم والخدمات المطلبية الفائقة .
جاء الربيع العربي تعبيراً عن انزعاج شعبي تجاه رأس الدولة ، ولكن رياحه التي عصفت بمحيط السعودية وانكسرت عند أبوابها في ظل علاقة تغلظ عراها بين القيادة والشعب ، زاد زخمها في عهد الإصلاحي عبد الله بن عبد العزيز الذي نظم علاقة تواصل فريدة بينه وبين شعبه .
في الوقت الذي تعاني فيه الدول العربية أزمة سياسية حادة تصل إلى الاقتتال التدميري بين قطاعات الشعب ورأس النظام - سوريا والعراق مثلاً - جاء هذا الانتقال السلس في السعودية مشفوعاً بمضاعفة الرضى الشعبي ومحفزاً لبنى التماسك والاستقرار الذي زاد الإيمان به والرهان عليه ، بالفعل إنها صورة ملهمة ومؤثرة .
حالة الاستقرار في وسط محيط عربي يموج بالاضطرابات المميتة والقاتلة ، تعطي البلد كثيراً من التبرير والإصرار والوقت لرفع فعالية هذه العلاقة الفريدة وزيادة الاستثمار فيها بمزيد من الضخ بأنظمة العصرنة الثقافية والاجتماعية وتحديث البنى المؤسسية والشوروية للمتابعة والمحاسبة وإصلاح الواقع بكل تحدياته الداخلية والخارجية ، وهذا ما ينبئ به عصر الوزراء الشباب الذي أطلق فضاءه الملك سلمان بن عبد العزيز .
أثبتت السعودية حجم الاستقرار الذي تنعم به في محيط إقليمي مضطرب وموشك على الانهيار ، وهذه السلاسة في انتقال الحكم وحماية المكتسبات تتطلب زيادة مستوى التماسك بين القيادة والشعب عبر الاستمرار في جهود التنمية والإصلاح الذي يبدو أن وتيرتها ستزداد في ظل حكم الملك سلمان بن عبد العزيز .
ولعل حزمة الأوامر الملكية التي صدرت تكشف عن جانب من تمسك القيادة الجديدة بالرغبة الدائبة لرفاه المواطن السعودي وتوفير حاجاته ، وعن عهد جديد يزخر بالقيادات الشابة التي تؤسس خير استجابة لظروف الزمان المتسارعة ومواكبة حركته المتعجلة .
الرابط :
http://www.elaphjournal.com/Web/opinion/2015/2/981983.html
تعليقات
إرسال تعليق