أصبح المجتمع السعودي مشدوداً من جهتين، واحدة تذهب به إلى أقصى درجات التشدد، وأخرى تأخذ بيديه إلى مستوى الانفلات، بينما تتعرض حاجات المجتمع الملحّة إلى الإقصاء المتعمد.
العرب عمر علي البدوي [نُشر في 21/11/2013، العدد: 9386، ص(9)]
انطفأ الحديث عن قضية المدون السعودي حمزة كاشغري، ونزل خبر الإفراج عنه برداً وسلاماً على أهل بيته الذين بكوه شهوراً بعد استتابته. لم يكن خروجه الهادئ يتساوق مع حجم اشتعال القصة في بادئ الأمر، نصبت مشانق الإعدام على منصات تويتر الافتراضية وهاج وماج الناس مع آخر حرف كتبه الشاب على صفحته إلى درجة جعلت الدولة تعجّل بملاحقته والقبض عليه في الأرض القاصية التي اختارها للهروب.
تحولت القصة من مجرد شاب متحمس اختار ألفاظاً موهمة للتعبير عن حالة عاطفية جياشة، إلى محاكمة اجتماعية ودينية قاسية لمنطقة ما في خارطة البلاد وُصمت بالانفتاح والتسامح مع التعدد والتنوع الفكري والثقافي والاجتماعي، وكأن في ذلك سبة أو مخالفة قانونية وشرعية.
ولو أن الأمر كان قد حسم في أروقة المحاكم الشرعية منذ البدء وأحيل إلى جهة الاختصاص لانتهت المسألة في مهدها دون أن تحدث هذا الجدل الذي لا يكاد يسأم منه السعوديون، إذ انحرفت الواقعة إلى محاكمة جماعية ونبش متبادل في ضمائر الجغرافيا بفعل الاستعداد الأيديولوجي الذي تتمتع به التيارات الفكرية في السعودية.
كل شيء يحدث في السعودية يلقي بمزيد من أعواد الحطب في نار الصراع الأيديولوجي المتوقدة، حتى الكوارث الطبيعية التي تعرضت لها مناطق متفرقة من المملكة جراء السيول وهطول الأمطار لم تنته إلى إقرار إجماع شعبي يدفع الحكومة لمحاسبة المقصرين ومعالجة الموضوع عبر أدواته وقنواته الحكمية والعرفية، وضاع الملف في منطقة التشابك الأيديولوجي ومنطقة الترامي والتنابز المتبادل، إذ لم تعمل الحادثة على اجتماع الكلمة واتحاد الموقف على منوال قول الشاعر «إن المصائب يجمعن المصابينا». وأسرع بعض المهوسين بالفاعلية الغيبية إلى تبرير الكارثة بالفساد المستشري في أزقة مدينة جدة وحواريها، وأشبع الموضوع جدلاً بلا عمل، وطويت الواقعة عند حدود التفسير التنابزي الذي ينحصر بين فساد أخلاقي أو فساد إداري، وظهر وكأن المسألة تحتاج إلى كثير من الوقت أو مزيد من المصائب.
في موعد 26 أكتوبر الذي اختاره جماعة من النشطاء والناشطات لفرض الأمر الواقع في وجه المجتمع والدولة على حد سواء، وحسم الموقف من قيادة المرأة للسيارة، تمخض المشهد الدرامي عن موقف حكومي قاس وانكسار حاد لدى منظمي الحملة ومنظماتها. كانت الحملة تشبه تظاهرة سياسية مكتملة الأركان، وحبكة أيديولوجية بكل حمولاتها الاستفزازية، وفي المقابل استعد الرافضون لقيادة المرأة بكل إمكاناتهم وأسلحتهم التقليدية من التشويه إلى استعداء الدولة، وما بينهما من تنظيم صفوف الاحتساب الذي يتجاوز المناصحة إلى التهديد بالتدخل المباشر لوقف الحملة.
منذ عقود ومسألة قيادة المرأة للسيارة تراوح مكانها، بين تخوف اجتماعي وتردد حكومي وتذبذب شرعي، كان الصراع الأيديولوجي حاضرا في أكثر مشاهده بروزاً. ولو أن المسألة حسمت كما حصل في مواضيع تغيير أيام الإجازة الأسبوعية، أو انضمام المرأة إلى مجلس الشورى لتغيرت المسألة ولم تكسب كل هذا الزخم المزمن.
تعاني كثير من المطالب الحقوقية في السعودية من قرارات التأجيل المتواتر التي تورط المجتمع في جدل فارغ ودائرة مغلقة تعطي متسعاً لخلق مبررات لا طائل منها لمنع هذه الحقوق وممانعة التغيير ومخاصمة الحداثة، إلى الدرجة التي أفقدت حتى أكثر المنادين بالمطالب عقله وحكمته، وأخذ يشرع في استجداء الحقوق عبر ممارسات غير منظمة ولا منطقية.كما أسهم تدخل القطاعات الشعبية العادية في منطقة التنازع من أجل التوافق عبر وسائط الاتصال والتواصل الحديثة إلى صب مزيد من الزيت في نار النقاش الملتهبة، كما أنه ترك الباب مفتوحاً للتوجيه الجماهيري الأعمى وتوظيف الأدوات التقليدية لقيادة الرأي العام إلى حيث ترتضي الجهات الأيدولوجية المتنافرة.
أصبح المجتمع السعودي مشدوداً من جهتين، فواحدة تذهب به إلى أقصى درجات التشدد، وأخرى تأخذ بيديه إلى مستوى الانفلات، بينما تتعرض حاجات المجتمع الملحّة إلى الإقصاء المتعمد وتطمر مطالبه الحقيقية في مدفن أرض تنام على الرماد.
اليوم وبعد توارد مشاهد التحرش وزيادة مستوى العنف الاجتماعي، تتنادى مجاميع المثقفين والناشطين إلى إقرار قانون يجرم التحرش، ولكن الملف الذي يتناوله أعضاء مجلس الشورى السعودي لم يسلم من الظلال التي يلقي بها الصراع الأيديولوجي بين التيارات المتوهمة في المشهد السعودي، إلى درجة جعلت من مصطلح «التحرش» مشكلاً في صياغته واستعيض عنه بكلمة أخرى تنسجم مع الخصوصية السعودية.
وكالعادة فإن أعمدة الصحف وصفحات الشبكات الاجتماعية وقنوات الإعلام القديم والجديد بدأت تتلقف هذا الملف وتنفخ في نار مستعرة تلتهم الأخضر واليابس وقودها التيارات والفكر. الجهد المبذول في هذا الصراع العقيم لا يعادله شيء، إذ لم تعمل التيارات على صب إمكاناتها وسيولتها الفكرية والثقافية في الطريق الصحيح لدعم التنمية الاجتماعية وتشكيل أرضية شعبية ونواة صلبة تستجيب لأي مشروع تنموي حقيقي يتبناه السياسي. وظلت التيارات تصرف كثيراً من عملها ونظرها إلى التشاغل فيما بينها باقتطاع مساحة أرحب وأوفر من ذهنية المجتمع ومقاعد الحكومة، حتى أن أكثر مناطق التنشئة الوطنية «التعليم» يراوح في منطقة العطالة التنموية أو الشكاية الاجتماعية، بعد أن انصرفت النخب والكفاءات الثقافية لتبادل تهمة اختطاف التعليم وتلغيم المناهج. وكذا ما يجري في مسألة الإعلام والمنابر الجماهيرية، ويبقى الخاسر الأعظم هو الوطن والمواطن.
كاتب سعودي
الرابط : http://www.alarab.co.uk/?id=8855
تعليقات
إرسال تعليق