قدّر لي اليوم زيارة رجال أربعة في مواقع أربع ، تجمعني بهم عرى واثقة من الصداقة وعلاقات ضاربة العراقة ، غيبتهم الحياة على وجوه مختلفة ، فما عدنا نراهم ولا نخالطهم ولا يجمعنا بهم إلا الصدف أو النية في زيارتهم على مهل وتناء في الأوقات والأماكن .
بعد صلاة العصر جمعت نفسي على إتيان سجن المدينة المركزي ، الذي لم يسبق لي زيارته إلا لماماً بغرض الاطمئنان على من نعرف ممن احتبستهم الفاقة أو المطل بالحقوق أو اجترأت نفوسهم على مواتاة الحرام .
عند البوابة تجردنا من كل ممتلكاتنا ، تبدو البنايات متجهمة ولا يرطبها سوى ابتسامات الحراس الذين يتكلفون التفتيش والغلظة في التعامل لما تقتضيه شروط العمل وأوامر القيادة ، بدأنا نقطع العنابر والغرف على جانبيها لبلوغ العنبر الذي يضم جسد صديقنا وروحه المنهكة من طول الحبس .
وصلنا إليه أخيراً ، كدت أنسى ملامح وجهه أو أستغرب ما طرأ عليها من ذبول وهزال ، عيناه مغروقرتان بالدمع ، وحديثه ينبس عن بكاء جاهش مهموس ووجدان يقطر بالأسى والتأنيب وضمير يحترق من فوات الزمان على شبابه الغض وهو يراه يتناقص بسرعة مذهلة ، سبع سنوات وهو حبيس هذا البنيان المصمت الذي يحافظ على صمته ولا يسامره في صبح أو مساء .
أكثر ما يشكوه هو هذا الانحباس عن العالم الخارجي الذي افتقده كثيراً ، يحنّ إلى رؤية السماء دون حجاب والتملّي من انبساط الأرض دون حائط يحدّ الناظر ويعود بالخيبة والخسران ، أيام عمره تمضي بثقل عجيب وكأنها تجتر الملل وتلتهم قيئها من البؤس ، ومما يزيد الأسى والمعاناة أن الأمل في الانفراجة يخبو كل يوم لولا الثقة في رحمة الله تعالى .
خرجت من السجن مثقلاً باليأس ، أعاتب الحظ العاثر وقلة الحيلة وضعف النجدة ، مطأطئ الرأس من شدة الأسى أستعيد ممتلكاتي وأغيب في زحمة المدينة وهي تتوضأ لصلاة المغرب .
لم تكن المسافة شد طويلة بين السجن المركزي ومستشفى الملك العام ، وبعد طواف دام لنصف ساعة وقعت على غرفة المريض التي تفترش الأسى وتحتبس جسد صديقي المريض الذي أخذ يتماثل للشفاء ويرى بصيص العافية يتسرب إلى كبد الأيام المقبلة .
كان الفأل يتقافز من عينيه وهو يستعيد قدرته على المشاركة في الهم العام لقريتي البعيدة ، يسأل بكل ثقة عن مسجده الذي هُدم استعداداً لبناء جديد ، تحدث طويلاً عن معاناته ولكنه لم يتأفف مرة واحدة ولم يشكو من قسوة الألم ولا من سطوة المرض ، كان يحتفل باختياره ضمن قوائم الابتلاء الرباني ويتحفز لعطايا الله التي تسري في عروقه وتبشره بأيام الصحة .
كان مصراً على الحياة ، رغم أن المرض يهدد مادة الحياة ويسدد شرايين قلبه الذي يمده بطاقة العمر ، ولكنه متفائل في ظل تطمينات الأطباء المحترفين وبشارة الله للمصابين ، ولكنه يتلوى من جحيم الاحتباس القهري ، بوده لو استعاد حريته القديمة .
كل شيء أصبح بمقدار ، يتناول طعاماً مخصوصاً منزوعاً من الدسم والدهن ، ويتلقى نصائح مثقلة بالحدود والقيود ، ويمارس عليه الصغار والكبار دور الناصح الأمين أو الوصيّ اللعين ، وكل وخزة ألم تذكره بثمن الحرية القديمة التي أردته مريضاً ، آه ما ألذ الحرية وأبهض ثمنها .
ودعته بحرارة بالغة ، صافَحَنا باحتفال وأودع في عينيّ رسالة للدنيا الصاخبة خلف نافذته ، أنه يتوق للحرية الكامنة في شوارعها وشواطئها وسهولها ووديانها ، وأنه ناقم من هذه الجدران الأربعة التي اختصرت طموحاته وآماله .
أدركتنا صلاة العشاء في مصلى المستشفى ، بعدها اكتشتف أن الوقت تأخر كثيراً ، وأن المسافة بعيدة حتى نبلغ قصر الأفراح الذي يستقبل المهنئين بزواج صديقنا اللطيف ، عاش شباباً مشبعاً بالمغامرات والتحديات ، كان منطلقاً ورحباً وألقاً ولا يملّ من كثرة التطواف على بقاع الله النضِرة والخضِرة ، متخففاً من كل الشروط التقليدية ومستعداً أن يدفع راحته ثمناً للاكتشاف والاستطلاع والتجربة .
كان العريس بحضرتنا قبل موعد الزفة ، لفيف من أصدقائه بدأ يغازله بأيامه الخوالي التي جعلته رمزاً للفكاهة والانبساط ، وأرعبوه بنتيجة الزواج الذي ينتقص من حريته ويفرض عليه شروطاً تثقل حركته وتحدّ انطلاقته ، لقد أصبح ملزماً بكائن آخر لإسعاده وتلبية شروطه ، وتخليق حياته على نحو يزاحمه فيها زوج وشريك .
لم ينبس بشيء سوى خوفه من الندم على أيام العزوبية التي بدأ يغزوها القِدم ، وألقى في مسامع شركاء المراهقة الذين يحيطون به أنه يود لو كان وفياً مثلهم لشبابهم وعفويتهم وأنه تأخر في قرار الزواج حتى لا يفقد حريته ، ربما يغير رأيه بعد ساعات عندما يذوق حلاوة العرس وقيمة الزواج ، لا ندري !! ولكنني تركته على شعور بالفرح تغلفه الحسرة على ذهاب العزوبية بكل حريتها المكتنزة .
على بعد ساعات من مطلع الفجر شئت أن أنام بعد ليلة مكتظة بالأحداث والمواعيد والمشاوير ، ولكن منبه رسائل الجوال أخطرني بوقع مؤسف ، والد صديقي غادر الحياة وسيكون موعده الأخير مع سطح الأرض هو صلاة الفجر وبعدها سيودع في باطنها ليلقى مصيره المغيب في بطن السر .
التقطت أنفاسي وشماغي الأحمر المكدود من مواعيد العزاء التي تكاثرت مؤخراً ، واتجهت إلى مسجد الحي الذي يسكنه صديقي للتحضر للصلاة على الميت بمعيّة صلاة الفجر الطاهرة ، بدأ الناس يتوافدون بشكل لافت ، وعندما اقترب موعد الصلاة جيء بالجثمان محملاً على أكتاف أهله .
هذا الرجل الخمسيني غادر الحياة ، أصبح ذكراً بعد أثر ، فقد حريته ، ليس بمقدوره اليوم أن يفعل أو يريد ، أصبح مرهوناً بما عمل وصنع أيام كان ممكّناً من العمل بحرية وقادراً على إتيان ما يريد من خير وشر ، حقيقة الموت أنك تخسر ملكة الاختيار الحر ، والمفارقة العجيبة أنك تحاسب فيما بعد على حريتك ( عمرك ) فيما أفنيتها ؟
الحرية مسؤولية !
تعليقات
إرسال تعليق