- رثاء أقل مما يليق به محمد -
كان صباح اليوم كئيباً ، يشبه صباح السبت البائس الذي حملت ظهيرته خبر وفاة والدتي الكريمة .
حاولت النوم ، وجدت صعوبة شديدة في التقاط أول خيوط النعاس ، زارني إحساس غريب أنه صباح لا يبشر بخير - والحمد لله على كل حال - .
لم يمر الكثير من الوقت قبل أن يخيّم خبر وفاة الصديق اللصيق " محمد مبارك الفلاحي " مثل ليل بهيم يشد جنود سواده الكالح إلى ميدان السماء .
سريعاً .. تنهال الذكريات التي أصبحت - ويا للأسى - من رماد بمجرد هطول هذا الخبر المؤسف .
لم تكن الذكريات بعيدة جداً ، كانت طرية تواً ، كانت مكالمة مفقودة بالأمس لم أحظى بفرصة استدراكها ، ولن أحظى بذلك أبد الآبدين ، ذلك لأن صاحبها أصبح في طيّ الموت .
كنت أتمنى لو استقدمت من أمري ما استدبرت لأعاود الاتصال به ، لعلها تكون وصية ، نكتة عابرة نتناولها للمرة الأخيرة ، لعلها نصيحة ، أو مشروعاً ، كعادة المكالمات الكثيرة التي جمعتنا طويلاً ، وأصبحت أكثر وأغزر في أيامه الأخيرة .
وما أقسى أن تقول أيامه الأخيرة لرجل تتمنى لو بقي على وجه الأرض أطول مما يأتي به القدر ويتيح له الأجل .
لعل المكالمة التي خُنقت في مهدها ، كانت وداعاً من نوع أثير ، مصافحة شفوية أخيرة ، ربما كانت رثاء في شكل مشروع يقوم له حتى تطوى الأرض ، ويدوم بذكره وعطره حتى تنكسف السماء .
كنت أتمنى لو كان لون المكالمة أسوداً بدل الأحمر ، كتلك المهاتفة الطويلة جداً قبل يومين ، يوم حدثني عن ( استشراف ) المستقبل ، استخدم هذه الكلمة بالتحديد ، واستثارتني ضحكاً لأنني استكبرتها منه ، وقتها لم أتصور أن هذا المستقبل سيأتي خالياً من محمد .
في آخر رمق من حياته كنا نتواعد كثيراً على غير ما اعتدتنا في علاقتنا الطويلة ، اقتربنا ، واستودعنا الأسرار والهموم في مدافن صدورنا ، كان الاتصال الهاتفي طقساً أسبوعياً يجمعنا للحديث عن آخر ما وصل إليه أمر ( وقف حياتي ) الذي يعود لمكتب الدعوة بحلي .
في آخر ما استقرت عليه إدارة المكتب قبل شهر هو اختياره مشرفاً عاماً على مشروع الوقف ، لا يبدو هذا الترتيب اعتباطياً ، يبدو وكأنه يستودع رسائل كامنة من نوع ما .
وليعلم محبوه وأهله أن أفضل الوفاء والعزاء لهذا الرجل هو الدأب وبذل الوسع لهذا الوقف ، لأنه كان يسهر من أجله ، ويسافر في سبيله ، ويعتصر من شدة الشوق لاستكماله .
الأسبوع الفائت كنا ننوي الذهاب معاً لمعرض الكتاب في جدة ، ولكنه تأخر في مكة لأن موعداً
آخر ينتظره هناك من أجل الوقف .
وقبل ذلك كان في نيتنا التواصل مع " حمزة الفرائضي " ليدعم موضوعه ، أبشرك يا محمد وأنت الراقد في تراب الأرض ، أنني كتبت إليه ، ونحت له حروفاً من حبر إخلاصك ليساعدنا في استكمال الوقف .
كان يتحدث بلا توقف ، يبتكر أفكاره باستمرار ، عندما يصطحب ابنته إلى معلمتها الخصوصية في الجوار ، كنا نقضي وقت الانتظار معاً ، غاصين في الضحك ، غارقين في البحث عن أفضل السبل لاكتساب الداعمين ورجال الأعمال من أجل الوقف .
لا أعرف بالضبط ماذا كان يريد باتصاله الأخير الذي لم يحالفني الحظ لمجاوبته ، ولكنني أشعر وكأنه يريد أن يضع الحرف الأخير في قصة بحثه المضني لاستكمال المشروع ، يبدو وكأنها وصية المودع ، ولكن هيهات .
ويح النومة التي أزهقت هذه الفرصة ، وغصّ الرنين في استجداء يقظتي ، حتى سكت الصوت وذهب صاحبه .
كنت أتمنى لو كتبت رثاء يليق بك ، يليق بالأنس الذي نجده في لقائك ، والضحكات التي انفجرت في الفضاء ، ثم انهمرت وجعاً قاسياً على قلوبنا الضعيفة ، رثاء يضاهي العمر الذي ذرعته من أجل الدعوة إلى الله .
كان في آخر أيامه وحيداً إلا من مشاريعه ، وأحياناً قليلة يشق صمت الوحدة بمكالمة سابغة بالحب ومترعة بالنوايا العازمة على اختراق المسافات نحو خدمة الدعوة إلى الله .
اليوم وقد تأمسنت مكالمتك الهاتفية ، وقد أمسيت مسجى في قبرك ، من الذي لم يتذكرك يا محمد ! من الذي غاب ذكرك الطيب عن سمعه ! حتى من يجهلك ولا يعرفك ! من ؟!
تعليقات
إرسال تعليق