التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كلام في السياسة





عندما يجدّ في السياسة شيء ما ، فليس من المنصوص عليك أن تتخذ موقفاً منه ، وتلهث لتُسمع العالمين والأولين والآخرين رأيك تجاهه ، وتلاحقه حتى تأتي أقصاه ، وتسرع لابتلاع كل ما يتعلق به وينجم عنه ، وكأن قناة بريطانية شهيرة ستستضيفك في نشرة المساء وتستجوبك على طاولة أفذّ مذيعيها .
هوّن عليك يا صاحبي ، لعل جليسك في " القهوة " لا يأبه لموقفك أو يحفل بكلامك ، فضلاً عن هديرك في الفضاء الافتراضي وكأن العالم يرقب منك دلواً في هذا الحدث أو ذاك .
سيما إذا كان الخبر مدوّياً ، تجد الناس تغرقه حديثاً ، وكأن تعميماً صدر من جهة حكومية غارقة في بيروقراطيتها تهيب بالمواطنين المشاركة في هستيريا التعليقات والتحليلات السمجة .
كان الحدث السياسي فيما مضى وقبل ثورة الاتصالات يدوّي في واقعه ، ويطبخ في معامل الصحافة لينتج ناجزاً حصيفاً في طبعة الصباح ، يتناوله الناس مع طاولة الإفطار مشبعاً بآراء كبار المحللين والعارفين .
بغض النظر عن فرص التضليل الواسعة التي كانت تمتلكها الحكومات يوم كانت تحتكر وكالات الدعاية والأخبار ، ولكن الخبر من جهة انتشاره في المجتمع كان يأخذ كفايته من الوقت والإثراء والإنضاج .
ولم يكن الأمر بهذا المستوى من الهوجة التحليلية التي انسحبت من مواطن الرصانة والمتانة ، إلى مهرجان من المساهمين في الرأي بحقه وبدون ذلك غالباً .
إذا لم يكن لرأيك شعبية تتجاوز عدد الكراسي التي تتململ فوقها في " القهوة " فالأفضل لك أن تكف عن إتيان العجائب والطوام ، وأن تستهلك الأخبار التي - ولحظك الجميل كثيرة هذه الأيام - في استنزاف الوقت وأنت تهرف بما لا تعرف على جلسائك ، وأن تحفظ مطولات التحليل التي تطالعك بها القنوات لتعيد روايتها لجلسائك وكأنها - وياللعظمة - من نسج خبرتك الواسعة ، من يعرف ! ربما حتى الذي يجلس قبالتك كان ينتظر دوره ليسابق بها .
ومن المضحك المبكي أن منطقتنا أصبحت السياسة داؤها ودواؤها ، بحيث لا يمكن الانفكاك من هذه الملحمة السياسية الهوجاء .
ولكن منطقتنا تشتبك في سلسلة متداخلة من الأحداث السياسية تجعل الحليم حيراناً ، ويعجز عن فهمها أجهزة الاستشعار الاستخبارية ومراكز البحوث الجادة وصناع السياسة ودارسوها ، فكيف يمكن لك وأنت البسيط في ثقافتك والعليل في فهمك ، أن تصل إلى المخبوء وتحيط بالمقصود ، لا ضاق فهمك .
الحقيقة أنك تملك فائضاً من الوقت وتتمتع بمساحات افتراضية وإلكترونية تحرّضك على المشاركة ، تخرج السياسي العملاق من داخلك وتنفخ فيه من روحها المزيفة ، ثم تتشدق بتحليلاتك وتصوراتك العظيمة والتافهة في آن .
إنني لا أريد أن أضيق واسعاً ، ولكنني أحب لك أن تصرف وقتك فيما ينفعك ويعود عليك وأهلك ومن تحب بالخير العميم والبشر العظيم ، فإن الجهد الذي تبذله في غير محله ستدفع أضعافه من الندم على فواته .
احتفظ بوقتك في التركيز على دائرة تأثيرك ، وما يفيض عنه في متعك وراحة بالك .
أما إذا قصدت بذلك أن تبدي رأيك وتشارك في شأنك العام فإن هذا يحدث في بلدان العملية السياسية التي تستوعب المجتمعات وتضمن لها حق المشاركة والتعبير والتأثير ، وسواها فهو إزهاق للوقت وضياع للجهد وتفويت للطاقة .
صحيح أن هناك من الأحداث الضخام ما لا يمكن تفويته ، وآخر متصل بيومياتك مباشرة ، ساعتئذ فليس أفضل من تحرّي الصدق في النقل والتعفف عن الإشاعات وتسقط وتلقط ما لا يجدر على عاقل القناعة به .
وإذا كنت لا تعتاش من إرهاق ملاحقة الأخبار ، مثل صحفي منحوس يسترزق من قصص السياسة المزعجة ، أو دبلوماسي يعمل لصالح حكومته وفي خدمة شعبه ، فإنه ليس أقل من الخروج من دوامة التعالم باحتضان رأي من ترتاح إليه وتطويره عبر ماكينتك التلقائية وإعادة روايته في محيطك البسيط .
دون أن يكون هذا طمعاً في التفاتة اعتراف بنبوغك وتوهجك كمحلل سياسي عظيم ، أو هرولة عابثة تذهب بجملة وقتك وطاقتك ، فإنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً .
ومن أجل أن تطمئن لرأي ناضج حول حدث سياسي عام لا يمكن تجاوزه ، فانتظر حتى تهدأ الزوبعة ، وتخرج من الدهشة الأولى ، واستفتي الخبراء المنصفين الجادين في المسألة ، إذ لا ينفع يوم لا تكون مؤثراً ألا تكون منصفاً كذلك .
فعملية التأييد على طول الطريق لا يفعلها إلا الإمّعات ، والشجب المستمر هذا من عمل المنظمات والجامعات ، والرأي السياسي هو جهد شخصي متصل بتقليب وجوه المصلحة وتفحّص مواطن الإصابة والإلمام بظروف القضية ، ولا علاقة له بمسألة الولاء والمواطنية وسواها من معاني الانتماء المنطقي أو الهستيري ، فبعض الحكومات تستفيد من افتعال بعض الأحداث لتثبيت عروشها حتى لو ذهب الشعب إلى الجحيم كما تفعل إيران وغيرها كثير .

تعليقات

  1. مكتب محمد الحسينى المحامى بالاستئناف العالى فون واتساب 00201203270033
    محامى مصرى معتمد
    تسجيل وتوثيق العقود بكافة اشكالها
    عقود شركات- عقود تجارية-عقود التوظيف
    توثيق عقود العقارات وتسجيلها ونقل ملكيه العقارات بالشهر العقارى والمحكمة
    توثيق عقود زواج الاجانب لكافة الجنسيات..
    - صياغة وتعديل كاقة انواع العقود والاشراف على تعاقدها
    تاسيس الشركات الفردية وشركات التضامن وذات المسئولية المحدودة و استخراج البطاقة الضريبية والسجلات التجارية لكافة الانشطه سواء شركات او افراد
    زوروا موقعى

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...