عندما تتجرع شيئا من كوب ماء فإن فارق النقص ملحوظ، بخلاف ما لو اغترفت صهريجا من لجة بحر ما نقص منه شيء.
عندما حلت الشبكات الاجتماعية ضيفا على الشعوب العربية وجدت فيها ضالتها المنشودة وثروتها المفقودة، وجدت الحرية بفضائها الرحب، والأريحية بأفقها المنفرج، تقاطرت للمشاركة في هذا المجتمع الحي الفاعل النشط.
الاحتجاب الطويل عن الحرية، تسبب في تضليل العقول، تحولت الحرية إلى أسطورة، إلى فضاء خيالي وفاقع المثالية، وعندما تحققت انفراجة يسيرة تدفقت حشود المسحوقين على أبواب التقنيات الحديثة، فقدوا اتزانهم وأحدثوا جلبة في بلاط ذلك العصفور.
ولذا أصبح مألوفا أن تتحول مثاقفة أدبية وفكرية إلى مذبحة أخلاقية، أصبح غير مستبعد أن تطير تغريدة تمتطي الحرية الممنوحة ثم تعصف بها سموم خارجة عن سيطرة العقل والأدب حتى تخر صريعة اليأس وهول الفجيعة الأخلاقية. الحرية ليست ضوءا أخضر للإساءة، الحرية فضاء، وعاء، أفق يمكن أن يصعد إليه الدخان الخانق أو البخور، الفرق في الأعواد التي تشتعل بالأسفل.
عندما حرمنا من الحرية طويلا في البلاد العربية تحولت إلى فكرة خيالية، وعندما حصلنا على بعضها أخفقنا في التعامل معها بطريقة عفوية وطبيعية، المضحك المبكي أنها حرية كرتونية، افتراضية، مطواعة ومنكمشة، وقد لا تستحق كل هذا الاحتفال المحموم.
الذي يعتقد أن الحرية يمكن أن تصنع التقدم والتنمية والرخاء، مخطئ في ظنه مسرف في أمله! الحرية ليست إلا مجرد فضاء كبير، الإنسان وحده الذي يعوم فيه يحول هذه الأحلام إلى حقائق.
وأي إنسان هذا السحري الذي يقلب بعصا حكمته الكون زاهيا جميلا؟ إنه رجل المعرفة والإيمان والسماحة، بدون معرفة يستبد به الجهل، وبدون إيمان يطيش به الهوى، وبدون سماحة يغرقه العنف في بركة دماء.
وعلينا بالروية؛ إذ الحرية في مجتمع متخلف وحل من الخيبات والثلمات، وهي في مجتمع متبصر مستنير أداة بناء ونماء. اصنع مجتمع الحرية قبل أن تستجلب له فضاءاتها الفسيحة، فليست الحرية مطية لاستجلاب المكاسب وتوسيع المناصب وتزاحم المناكب واعتلاء المراتب، ولكنها فرصة ممنوحة لكل فكرة أن تعيش في حيزها المستحق ونصيبها المتفق، في ظل «مشترك واحد» لا يحيد ولا يبيد من دين متين وثقافة أصيلة وجغرافية ثرية.
يلزمنا أمام ذلك شيء من التأهيل الاجتماعي يخفف من آثار الحرمان المنعكسة، ويكبح جماح الطموح المتوحش، شبكات التواصل تسببت في سيولة دافقة تحتاج إلى ضبط وتنظيم.
الحرية التي تتسبب في انتحار أخلاقي وفجوة اجتماعية هي فوضى في الحقيقة، أصبح لازما تعانق الحرية بالانضباط، ومن هنا تنادت بعض قوى المجتمع المستقلة والمؤدلجة لتطويق هذا الانفجار الاجتماعي ولملمة هذه البعثرة وفرض قانون تنظيم ورقابة وعقوبات.
الحكومات التقليدية تريد أن توظف هذا الانحراف كمبرر لخنق هذا الطائر المزعج، أن تلاحق الحرية المقلقة حتى في أطراف جمهورية المهمشين، وهذه إعادة تدوير للأزمة وتخليق جديد لأثقال الحرمان.
المسحوقون ممن تنفس الصعداء مع مكتشفات الاتصال الحديثة ينقمون على كل مساس بحمى الحرية، يتوجسون من ضبابية القوانين التي قد تبتلع الغث والسمين ولا تميز الخبيث من الطيب، لا يريدون شرعنة قوانين حق للتنظيم يراد بها باطل التضييق.
مهمة القوانين ألا تعيق عمل هذه الحريات ولكنها تضيف مطلب المسؤولية الاجتماعية، فتح الباب على مصراعيه يتسبب في نتائج غير محسوبة وربما عواقب لا تحمد، يشبه تسليم زمام القيادة لصبي غير ماهر ولا متمكن يعرض حياة مرافقيه للخطر. المجتمع يكتفي بنفسه لمعالجة أخطائه، وليس شيء مثل الممارسة للتدريب على الحرية، التمكين وحده الطريق باتجاه التنمية والنضج والتطور، وعملية التقنين عليها أن تساعد في رعاية هذه العملية التربوية ولا تتجه إلى شبق العقوبات وجوعة الأغلال والقيود. الرقابة لا تعني حرمان النفس من الممنوعات، ولكنها تعني اختيار الأصلح.
الرقابة جهد بشري، وبالتالي يختلف في تحديد ما هو ممنوع من غيره، يجب أن يكون عمل الرقابة قائما على ما يصلح للبشر، لا يقوم كعملية سلبية تشتغل على وضع قوائم الممنوعات فتسأم النفس وتندفع بحماس متهور لتحقيق رغباتها.
وعلى العموم فإن الحرية عدوى، عملية لتنامي الإحساس بالمشاركة، وهي فرصة تسامي النفس إلى قبول الآخر وترويضها للتعايش مع التعدد، ومن هنا يمكن أن تجد التغيير يدب إليك بهدوء، وتلاحظ التحسن المثير في حالتك الذهنية والسلوكية، الحرية لا تعترف بالعودة إلى الوراء، ولا تتنكب طريق أهدافها المنظورة.
يقول المستعرب نوبواكي نوتوهارا في كتابه العرب من وجهة نظر يابانية: «إنني أجد نفسي مضطرا لأن أضيف بلغة صريحة مباشرة، أنني أرى أن الحرية هي باب الإنتاج وباب التواصل والحياة النبيلة، ولذلك أرى القمع داء عضالا مقيما في الوطن العربي والعالم، وما لم نتخلص منه فستفقد حياتنا كبشر الكثير من معانيها».
لماذا نخاف الحرية؟ فكم نبّهت من مخلوق لدين الحق وردت آخر عن مزلق الكفر.
ولماذا نرفضها باسم الاحتياط، ونغلّب سوء الظن بالناس، وهل هم إلا بشر ما عرفوا الحق إلا اتبعوه! وقد تأخذهم الشبهة إلى الشر أو الشهوة حينا آخر ثم تردهم المعية الإلهية أو داعي القلب.
ولكن يبقى في الحرية مؤمنون صادقون لا يخافون لومة لائم وفي العبودية منافقون يتاجرون بالمظاهر، الهدف الرئيس لنا هو «تعبيد الناس لله».
لكن الواحد من الناس يفضل أن يعبد وهو مريد (حر)، وأن يشكره على نعمه (ميسور)، وأن يكون عزيزا في نفسه غير ذليل (مصون الكرامة).
وفي هذه الحال فإن الشريعة جاءت لتجعل الناس أحرارا وميسورين ومستوفين لكرامتهم، والدولة التي تقوم بأمر الناس عليها أن تطبق هذا النموذج من الشريعة لا غيره، وإلا كانت (استبدادية) تضيق عليهم حريتهم و(فاسدة) تسرق اللقمة من أفواههم و(ديكتاتورية) تمتهن كرامتهم وتسحق فرديتهم.
قلت مرة بعد موجة الثورات العربية إن الديموقراطية في مصر مثل رجل شديد الفقر لم يحلم بالغنى يوما، ثم ورث من جدته القاصية ثروة هائلة فلم يحسن التصرف من هول المفاجأة، هذا ما يحدث تقريبا للحرية عند بعض الشعوب العربية.
أمر يدعو للشفقة أن تكون الحرية جديدة على شعب يعيش في القرن الواحد والعشرين!
الرابط :
http://www.makkahnewspaper.com/makkahNews/blogs/108430.html#.VM1wNGisX9U
تعليقات
إرسال تعليق