التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التجاور المزمن


الصورة بعدسة صديق الغانمي

هذه اللقطة من وقف الملك عبد العزيز المحاذي للحرم المكي الشريف ، لا يفصل بينهما إلا باب زجاجي شفاف ، وكأنه برزخ بين الدنيا والآخرة ، في الخارج يقصد الناس ذلك البيت العتيق طلباً لله ورغبة في عفوه ورضوانه ، يقبلون في غاية الزهد بالدنيا والإقبال على الآخرة متنزهين عن حظوظ النفس والطمع في ملذات الدنيا الفانية .
وفي الداخل يطوى كل ذلك ويقذف به في سعار الاستهلاك الهستيري الذي يشتعل فوق موقد الطفرة المادية العابرة ، صورة من الاستغراق البضائعي التي تتخطف إنسان اليوم ، لهاث متعجل وراء متتالية متسلعة تشيّء كل ما يدرج على الأرض مقابل أثمان تختزل قيم الكون في بؤس المادة الحادة .
صورة تجمع نقيضين ، تختصر فكرة الحياة ، إقبال على الآخرة ، أو إغراق في الدنيا ، ارتفاع إلى سمو الجنة أو انغماس في بحر الحياة ، تقبع في مسجدك وتنعم ببعض الهدوء وتعيد ترتيب أوراقك ، أو تهرب إلى متجرك وتسعى في حاجتك فتشقى بتشظي اهتماماتك وتشرذم تركيزك .
في المسجد ، والحرم المكي في مقدمته ، يصطف الناس على قدم المساواة ، تنتفي كل أعراض التمايز الطبقي والمادي ، تذوب حمم الفروقات التي تغذيها مكاسب الدنيا .
على عتبة أجنحة الوقف يرتطم هذا التسامي بحقيقة عبث الإنسان في المعاني ، على جانبي الطريق المؤدي إلى طوابق الوقف الفارهة ينتشر الشحاذون على أمل استدرار عناية نزلاء أجنحة الوقف الفندقية من الطبقة الفاخرة ، نزلاء الفندق يلقون عباءة المساواة عند باب أجياد ويتوشحون قمصان الطبقية الألمعية عند أول خطوة باتجاه الوقف .
يقضون ما تبقى من مساءات الروحانية في غرفهم الجامدة ، يرقبون من علياء بناياتهم المتطاولة حركة الناس المتنزهة حول الكعبة ، وتلمع في أبصارهم بارقة الشعور بالاختلاف والتعالي .
في ظني أن قيام مثل هذه المساحات من الإغراق الاستهلاكي إلى جانب حرم الله الشريف من أكثر أخطاء الإنسان فداحة ، نهى الإسلام عن المبالغة في تزيين المساجد لمضاعفة زهد المتعبد عن التعلق بشيء من دنيا الناس ، فكيف بعمارة مباني جعلت على أقصى ما بلغه الإنسان من التكلف والعمارة تنطوي على أبشع صور الاستهلاك البضائعي .
على بعد رمية حجر من أكثر البقاع قداسة واتصالاً بالسماء ومعاني الآخرة ، يخلع الإنسان عن كتفه عباءة الزهد ويلتحف أردية التعلق بالدنيا ، ينسى تماماً كل تلك الروحانية التي تجلو عنه ركام الدنيا ويغشى من جديد وعلى بعد خطوات من نبع الإيمان مباءات التبضّع من سوق الدنيا القائمة .
يبدو مزرياً تجوّل رجال هيئة الأمر بالمعروف مع رجل قبضتهم الأمنية لحماية المتبضّعين من نوايا المعاكسات ، على بعد مسافة أقل من الكيلو عن كعبة الله المقدسة ستجد شابات متغنجات استفزت حالة الاستهلاك قواهم الاستعراضية الكامنة ، وفي المقابل شباب لديه استعداد خامل للمعاكسة إذا استدعته فرص جيدة للتواصل ، لقد قام هذا التجاور المزمن للحالتين بتبيئة السلوك الإنساني المسرف في دنيويته والقافز من نعيم إيمانه .
ألا ليت قومي يعلمون !

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...