2013-12-31 |
بقلم: عمر علي البدوي / كاتب من السعودية
تملك القاعدة الآن، فكراً وتنظيماً، أفضل فرصها التي توافرت على الأراضي السورية بعد أن انحرفت ثورتها الشعبية السلمية إلى احتراب دموي غير مسبوق، حيث استطاعت القاعدة أن تتسرب إلى صفوف المقاتلين بأطيافهم المختلفة حتى تمكنت من بناء قاعدتها المستقلة وتنظيماتها المنفردة.
مسارعة فرع القاعدة في الأراضي العراقية إلى استغلال الموقف السوري والانتقال إلى ميدان قتالي جديد، يعطي فرصاً واسعة للتجنيد والتسلح وإحياء الفكر والعمل الجهادي الأممي، التقى هذا مع رغبة النظام السوري بحرف القتال المسلح على أراضيه إلى حرب مشروعة حسب التصنيف الدولي: بين نظام قائم وجماعات تكفيرية متشددة.
ولكن الملفت في التحرك القاعدي على الأراضي السورية هو الخلاف الذي ظهر علانية بين فصيلي القاعدة، جبهة النصرة التي يقودها قاعديين سوريين أعلنوا ولاءهم لقائد القاعدة الحالي المصري أيمن الظواهري وبين دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) التي تشكل امتداداً لبقايا القاعدة في العراق.
ويبدو أن الخلاف لا يتوقف على مجرد قضايا تنظيمية وإدارية مرجعية، بل أعمق من ذلك إلى البنى العقدية والفكرية التي تنسج إستراتيجية عمل كل من التنظيمين، إذ تظهر جبهة النصرة انسجاماً أقرب إلى الفصائل الإسلامية المحلية التي تطمح إلى إسقاط النظام أولاً ثم بناء دولة إسلامية تسع أطياف المجتمع، بينما تبدو دولة داعش أكثر تشدداً وانغلاقاً في موقفها من بقية الفصائل المقاتلة وتمثل أقصى درجات التشدد الجهادي المفاصل.
تعتبر الأراضي السورية أرض ميعاد في الاعتقاد الجهادي المتسلف، كما أن إسقاط النظام القائم واحد من الخطوات الهامة في اعتبارات الفكر الجهادي بوصفه واحداً من الموانع الحائلة دون قيام دولة الإسلام الكبرى وتحقيق اللحمة الأممية التي تحقق للمسلمين غايتهم المشتركة ومشروعهم الأوحد.
ولكن تنظيم القاعدة خسر الكثير من حضوره الشعبي ومبرراته السياسية للانتشار والتوسع وانحفضت لديه القدرة على التجنيد وتحصيل الدعم وبدأ بريقه في الخفوت نظير الجهود الإعلامية الضخمة التي خاصمت هذا الفكر، إلى جانب الحرب العالمية التي قادتها الولايات المتحدة وحزام واسع من دول العالم للقضاء على تنظيماته ومنابعه الأصلية والفرعية، وشيء من ذلك حصل بالفعل.
بقيت القاعدة نشطة في بعض البلدان الفاشلة كالصومال واليمن وأفغانستان ومالي وقليل من الحضور في باكستان وشمال أفريقيا وسيناء وسوى ذلك، إذ بقي الحضور القاعدي مرتبط إلى حد ما بالأساس السلفي الحاد والمظلومية الاجتماعية، إلى جانب مناوشات متفرقة تبنت القاعدة فكراً وطريقة دون ارتباط تنظيمي حقيقي ومباشر.
ومع انفجار الثورات الشعبية في وجه الأنظمة العربية التي كانت في قلب الحرب العالمية على "الإرهاب"، استعاد التنظيم الجهادي عافيته، سيما بعد عسكرة الثورة الليبية التي سمحت بانخراط مجاميع من القاعدة في صفوف الثوار، ولكن تدخل الناتو حسم المعركة باكراً وهزم كتائب القذافي النظامية ولم تعطي متسعاً من الوقت للقاعديين على الأراضي الليبية رغم بقائهم بصورة متقطعة.
ولكن الثورة السورية شكلت منعطفاً هاماً في تاريخ القاعدة بعد العشرية السبتمبرية، إذ جاءت الظروف القاسية التي يعانيها الشعب السوري المستضعف والاهتمام الدولي بالحالة الإنسانية هناك وبشاعة النظام البعثي في التعامل مع الهبة الشعبية بما تشتهي سفن التيار القاعدي، وبدأ في تثبيت حضوره على أراضي الشام، وتنادت الشعوب والقلوب للمشاركة في القتال لفك العذاب عن الشعب وفتحت التنظيمات القاعدية الباب واسعاً لاستقبال الوافدين وتجنيد المحليين.
يبدو أن القاعدة تأثرت عملياً بالحملة العالمية ضدها مما جعل جبهة النصرة رغم قاعديتها تاريخياً وتنظيمياً تخفف من لغتها الحادة، وتبدي رحابة صدر تجاه بعض القضايا كما ظهر في بعض آراء قائدها أبو محمد الجولاني في حواره التلفزيوني مع فضائية الجزيرة، كما إن تنظيمات القاعدة الناشطة على الأراضي السورية تبث مقاطع مصورة عبر حساباتها الافتراضية على الإنترنت تنقل بعض أنشطتها الدعوية والاجتماعية والخيرية بغرض تلميع صورتها وخلق فضاء اجتماعي يقبل بها ويعضدها.
ولكن الخلاف الحاد في طبيعة كل من التنظيمين لا يمكن غض الطرف عنه، إذ ما زالت "داعش" تمارس دوراً يلقى ضيقاً وعنتاً من أكثر الإسلاميين حماساً لإسقاط النظام إلى الدرجة التي جعلها تدور في فلك الشك باختراقها من قبل النظام السوري بعد احتدام الصدام إلى مستوى القتال المسلح بينها وبقية أطياف الثورة المقاتلة، يسند هذا الاعتقاد باختراق تنظيم الدولة تفسيرات الإفراج عن "متشددين" إسلاميين ظلوا لسنوات في قبضة النظام الأسدي إلى جانب الدور الكبير الذي لعبه النظام السوري وعلاقته الوثيقة بالمقاومة السنية إبان الحرب العراقية الأخيرة.
بينما تقف "جبهة النصرة" التي سُجلت في قوائم الإرهاب الأمريكية على مستوى ملموس من النضج في تعاملها مع الواقع السوري وتعاونه مع بقية الفصائل ورؤيته المطروحة لمستقبل الدولة الوطنية، وإن كان البعض يرى أن ذلك يأتي في سبيل الترويج الإعلامي والتلميع السياسي، رغم أن القاعدة تبتعد عن المواربة وتميل إلى المباشرة والصراحة في طرحها العام، وإن حصل أن الجبهة القاعدية تراوغ فهي على الأقل تمارس خطوة تكشف عن جانب من التحول العميق في بنيتها وممارستها.
أضاف البعد الطائفي للحرب الدامية على الأراضي السورية زخما مميزاً لخطاب القاعدة، إذ اندفعت المليشيات الشيعية من حزب الله اللبناني إلى لواء أبي الفضل العباس العراقي وحوثيوا اليمن وحرس إيران الجمهوري للقتال إلى جانب النظام ذي الطبيعة العلوية، مما ألهب حماس المقاتلين السنة لتبني ردة الفعل المقابلة التي تجسدها تنظيمات القاعدة السنية المتصلبة، حتى إن أكثر المقاتلين حرجاً من التلبس بدثار القاعدة انخرط في فصائل إسلامية لا تجد مانعاً من التعاون مع جبهة النصرة، رغم الانسحابات العديدة التي سجلت لصالح الجبهة والمنشقة عن تلك الفصائل الإسلامية.
ولعل تشكيل جبهة إسلامية أقل تشدداً وأكثر اعتدلاً من تنظيمات القاعدة يفسر جاذبية الخط السني الإسلامي في مواجهة القطاعات الشيعية المقاتلة، يضاف إلى ذلك انحلال عقد الجيش السوري الحر الذي يتسم بالانفتاح والتحرر من الشروط الإسلامية والطبيعة الدينية الجادة رغم أن هذا له علل سياسية مرتبطة بالدول الفاعلة في الملف السوري.
ويبدو أن جبهة النصرة تحاول فك العقد التي تراكمت خلال السنوات المنصرمة في ذهن الجهاديين، وتحاول العودة بهذا الفكر إلى لحظاته الأولى بعد حجم الانحرافات الحادة باتجاه التشدد والتصلب الذي تجسده "داعش" تقريباً، وبعد سنوات من الخصومة مع الأنظمة العربية والشعوب المسلمة التي بررت الهجوم عليهم وإباحة دمائهم إلى جانب الجبهة العالمية التي أعلنها الجهاديون الأوائل ضد اليهود والنصارى.
هذا التحول الناشئ في تركيبة القاعدة ليس جديداً، إذ تسجل القاعدة في تاريخها وحسب رأي الخبراء واحداً من أكثر التحولات جذرية في عمقها الاستراتيجي بعد انتهاء الحرب الأفغانية ودحر القوات السوفياتية، حيث سجل ذلك الحدث لحظة ولادة مشروع الجهاد الأممي على أيادٍ عربية.
ولكن مخالطة الجهاديين الأوائل لمجاميع من التكفيريين ممن يملك علاقة غير منسجمة مع دولهم القائمة وتجربة قاسية مع الأنظمة الحاكمة ورأيها من الحركة الإسلامية، أنتج خطاً حاداً وصوّب فوهة البندقية في وجه الحكام المسلمين وبدأ فصل من حرب النكد بينهما.
استطاع هذا الطيف الجديد من التكفيريين استنبات مبرراته الشرعية من بطون التاريخ الإسلامي ونسج مخططه السياسي من واقع المسلمين المؤسف، وبدأ في تجنيد المقاتلين الأوائل ممن يعاني بطالة جهادية واستقطاب محاربين جدد يملكون استعداداً دينياً ونفسياً كبيراً لاستخدامهم حطباً في وقود الحرب الجديدة وانتهى الحال إلى ما هو عليه من التشظي والشتات والعنت الشديد.
تعليقات
إرسال تعليق