سريعا، تلتهم أيام العام الجديد بعضها وهي تعاجل الخروج من آثار عام فائت لن يُمحى من ذاكرة المجتمعات بسهولة، بعد أن سيطرت الجائحة بتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية على كل العناوين والأخبار.
يدخل الخليج العام الجديد بإعادة ترتيب أوراقه تزامنا مع الكثير من المتغيرات التي فرضت مجموعة من المراجعات في نواح مختلفة، ليس آخرها جائحة كورونا ورحلة التعافي الاقتصادي والاجتماعي من آثارها، فضلا عن المتاعب السياسية التي أوصلت المنطقة إلى حالة من حبس الأنفاس والطريق المسدودة، ما يستلزم إعادة الاعتبار للخطط التنموية والتخفيف من وطأة الخلافات والتوقف عن شحن المواقف بالسلبية المفرطة.
البداية كانت في قمة العلا شمال غرب السعودية، حيث وضعت حدا للتكهنات التي استمرت لأسابيع عن حل الخلاف مع الدوحة وإنهاء الأزمة القطرية، أو بالأحرى اختبار خيار مختلف للتعامل مع السلوك القطري، الذي يوضع الآن تحت المراقبة والمتابعة بالتزامن مع فرص حوار مفتوح ومرن وأكثر عملية من التوقف بانتظار إنهاك أحد الأطراف، واستئناف مسيرة التجمع الخليجي الذي فقد بعض بريقه إبان الأزمة.
قدمت الجائحة دروسا مهمة لجميع دول العالم والمنطقة، لإعادة ترتيب الأولويات، وتذكير الدول الخليجية برهانها المركزي في رعاية شؤونها، وهي التنمية
ولكنّ المخاطر المحيطة بالتجمع الخليجي والتي لا يتوقف الإقليم عن أن يجود بها، نبهت إلى ضرورة إعادة الاعتبار لهذا التجمع وتجديد الرهان عليه بوصفه الحد الأدنى للحفاظ على وتيرة التفاهم والتعاون وإبقائه بحالة متعافية، قبل أن يذروه التجاهل والإهمال.
ومن المتوقع أن تنعكس حالة المصالحة على تفاهمات أخرى، مثل تلك التي تؤشر إليها التصريحات الإيجابية بين دول الخليج ومصر من جهة، وتركيا من جهة أخرى، بعد أن تكاثرت على أنقرة المشكلات التي تورطت فيها، وأضحى من المفيد لها أن تفتح خط تفاهم وتصالح مع محيطها العربي الذي أمعن سوء الفهم في تسميم العلاقة معه.
لا تزال إيران هي الصداع المزمن للمنطقة، وقد جددت إصرارها على الاشتباك مع دول الجوار العربي. وتقترح الدوحة الحوار مع طهران، وتطرح نفسها كوسيط، في ظل وعود باستعادة الحوار معها على الصعيد الدولي مع وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن، ويزداد زخم الترقب في فضاء المنطقة، التي لا تمتلك كثيرا من الثقة في نوايا إيران ولا رغبتها الجادة في الالتزام بنهج دولي متزن وسويّ، لأن ذلك يتعارض مع صميم ما بنيت عليه العقيدة الإيرانية وقامت على أساسه دولة المرشد.
عاشت طهران سنوات صعبة وقاسية خلال فترة حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لم ينس أن يضع أمام خصمه بايدن الكثير من العراقيل في حال قرر العودة إلى التفاهم مع إيران التي تنفست الصعداء بوصول الأخير، وهي تنوي تقديم اختبارات مبكرة لنوايا الإدارة الجديدة، وتذكيرها بأنها غير مستعدة لتقديم تنازلات جديدة لإعادة الحياة إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”.
من جهتها، تعيش تل أبيب أفضل أوقاتها تجاه الخليج، بعد أن قدمت لها مجموعة من الدول العربية طوق نجاة من شبه انقلاب في المزاج الدولي تجاه إسرائيل، وقد قررت الخارجية الإسرائيلية، تعيين الدبلوماسي ورجل الأعمال تسفي حيفتس، مبعوثا خاصا إلى دول الخليج ومسؤولا عن إقامة سفارتين في كل من أبوظبي والمنامة وقنصلية في دبي، وعن دفع العلاقات مع دول خليجية أخرى.
في اليمن، أحد أكثر ملفات الخليج إلحاحا، تتلمس الحكومة المشكلة حديثا طريقها، بعد أن تجاوزت محاولة إنهاء مشروعها في اللحظة الأولى لوصولها مطار عدن. ويتصاعد أمل متواضع بأن يكون نجاحها أو الحد الأدنى من وفائها بواجباتها، نواة لحلحلة المشكلة اليمنية، وتقوية الجانب المضاد للميليشيات الانقلابية المتمكنة في صنعاء والمحصنة بسلوك غريب ومثير للريبة من المبعوث الدولي مارتن غريفيث.
لكن بيد اليمنيين وحدهم، تسريع الفرص الضئيلة لإنجاح المهمة، والاستفادة من الأشقاء الخليجيين قبل أن يصرفهم تخاذل الأطراف اليمنية أو اعتكافهم على خياراتهم الضيقة. على أمل أن ينجز مشروع تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية، لقطع الطريق على نيتها فرض أمر واقع بسيطرتها على مصير اليمنيين، وإنهاء رهان أطراف دولية وإقليمية على تأثيرها كعنصر توازن سياسي وورقة عبثية.
ولا تقل أهمية تلك الملفات المحلية، التي تتنافس دول الخليج في معالجتها ومواجهة ضرورة الإجابة عن الكثير من الأسئلة في زمن أشبه بمفترق طرق بين المضي في مشوار التنمية، أو الشلل الذي ينذر به إهمال تلك الملفات وتفكيك انغلاقاتها.
المخاطر المحيطة بالتجمع الخليجي والتي لا يتوقف الإقليم عن أن يجود بها، نبهت إلى ضرورة إعادة الاعتبار لهذا التجمع وتجديد الرهان عليه
وفي عمان يعكف السلطان هيثم بن طارق على تعديلات دستورية محورية، تضمن استقرار البلاد وتساعدها على المضي في مسيرتها، والتركيز على الأولوية الاقتصادية المهمة. بينما لا تزال العلاقة شائكة بين المجلس النيابي والحكومات المتعاقبة في الكويت، بعد أن قدمت الأخيرة استقالتها.
لقد قدمت الجائحة دروسا مهمة لجميع دول العالم والمنطقة، لإعادة ترتيب الأولويات، وتذكير الدول الخليجية برهانها المركزي في رعاية شؤونها، وهي التنمية، تلك الكلمة المفتاح في قدرتها على التماسك والنجاح، والحفاظ على مكتسباتها في هذا المجال، الذي أخفق فيه كل جيرانها تقريبا.
ورغم تفاوت النجاح وكفاءة الاستجابة الذي حققته دول الخليج في مواجهة تحدي كورونا، إلا أنها أثبتت بما لا يدع مجالا للشك، قيمة تعافي الدولة وصحة أجهزتها وتماسك منظومتها، وضرورة الاستمرار في تحديث البنى التحتية لمنظوماتها الفنية والتقنية والإستراتيجية، كما عليها ألا تنغمس فقط في الملفات السياسية والصراعات، وأن تحقق الاعتدال والتوازن مع كل هذه الواجبات الضرورية والملحّة بطرق مبتكرة، وأن تختبر أساليب جديدة للنجاة من ورطة المواجهات الحادة والإبقاء على حيوية مفهوم التنمية في أجندة الاستقرار.
تعليقات
إرسال تعليق