يضرب الإرهاب مجددًا، والقوم متشاغلون بتقافز التهم وتنابز اللوم بينهم، في بلدان العالم المتحضر، وعندما يتهدد البلاد خطر محدق، لا وقت للتفكير في خصوم الرأي والفكر المجاورين، الخطر واحد، والعدو واحد، والصف واحد.
لا يوجد استثمار انتهازي للموقف، لا يضيفونه إلى ركام الخصومة؛ فالهم الوطني متقدم على المكاسب التياراتية، والمسألة القومية تتجاوز قيمة المعارك الهامشية التي تحدث للتسلية والتزجية أكثر من كونها عامل بناء وارتقاء.
تيارات توهمت دورها “العظيم” في سياق مجتمعي لم ينضج بعد لهذا النوع من النشاط السياسي، حيز متواضع من الحرية تتزاحم في وعائه مجموعة أفكار متنافرة تخلق استقطابًا حادًا تضيع معه بوصلة الجميع.
بإمكانك أن تلمس هذا في حادثة “فصول القرآن”، وتنظر في عراك التيارات المتوهمة، القرآن كتاب شريف لا تليق به منازلات المحتقنين، ويمكن أن يرفعه رجل مصلح ينير دروب الأمة في مسالك النابهين، أو يرفعه رجل هالك يتمنطق بحزامه المدجج بالزور وينسف ما تبقى من حياء على وجه الأرض.
الفرق هو في قدرة الأمة على الاستثمار الإيجابي أو الاستحضار السلبي، ولأن الأمة في طور حضاري متواضع أو متوقف؛ فإنه بمقدور أي مخلوق توظيف كل الإمكانات المتاحة لعمليات الإفساد.
الإرهاب تشوه حضاري، نتج عن عيوب متظافرة في السياسة والثقافة والاجتماع، وأي إصلاح بقدم واحدة دون الأخرى، ينتج مشروع تصحيح أعرج، يمشي إلى نهايته السعيدة ببطء وربما لا يبلغ.
لو أبصر الجميع مواطن الخلل بهدوء، بعيدًا عن الاستعداء والاستقواء، بعيدًا عن البحث عن فرصة لاتهام الآخرين، أو تسقط هفوة يظن معها بورطة الآخر في دوامة العنف، لو نظر كل منهم إلى المسألة بوطنية صادقة، وليست مجزأة، بمنظار موضوعي ونزيه؛ لاكتشفنا الحل وألهمنا السبيل.
لا يوجد عاقل يمكن أن يؤيد الإرهاب، أو يرعاه، الخلافات “الحزبية” داخل الجسد الواحد هي خلافات رأي على الطريق السليم للخروج من المأزق أو خارطة التنمية والإصلاح، المتشددون ممن يغذي هذا الفكر ويصنع مبرراته الشرعية يرزحون في السجون، الدولة ليست ساذجة لتتركهم يسرحون ويمرحون في عقول الشباب.
الأمر يتعلق بخيبة الواقع السياسي، الأمة ليست في أفضل حالاتها، الجميع يشعر بالاختناق من تكالب الأعداء وانفلات الأبناء، الظلاميون يعتقدون أن لديهم الحل للخروج من الأزمة، يعتصرون التاريخ والشريعة لتبيئة خطتهم في الرأي العام، يتقاطر المخدوعون مستسلمين لبريق الشعارات وجاذبية النتائج المتوهمة، ويحدث المحظور.
يولد على هامش هذه الظروف، شباب لديهم استعداد للخلاص، ولو على أنفسهم، تواقون للانضمام إلى مشروع إعادة تصنيع الأمة لتصدر الواقع من جديد، وفي ظل الخيارات الشحيحة يحجون شطر تنظيم البغدادي التعيس.
الاستعداد تصنعه الثقافة المتحايثة مع الفداء في سبيل الدين ومقاصده، عصارة دينية واجتماعية تمجد الموت من أجل الحق، والخطأ يحدث في تحديد نوعية الحق ورايته.
كما أنها عجرفة صحراوية، ترى في القتل العبثي إحقاقًا لكرامة الثائر الأعمى، بغض النظر عن تحقيق الهدف أو التثبت من المستهدف؛ ولذا فإن طالب جندية عادي، لا يعرف من مسألة “الولاء والبراء” التي يبني عليها الدواعش عقيدتهم، لا يعرف منها إلا ذلك الدرس البارد في حصة دينية مهملة، ثم يكون هدفًا دسمًا ومشروعًا لهم.
نحن بحاجة إلى مشروع سياسي يطوي حماسهم، ويستوعب نشاط الشعوب، ويستغرق نهمها السياسي، ويأخذ بيدها إلى المستقبل، ويداوي علل الواقع، ويسد فجوة الانقطاع مع التاريخ الذي تنظر إليه الأمة بقليل من الواقعية وكثير من الحنين.
النفس إذا لم تشغلها بالطاعة أشغلتك بالمعصية، والشعوب إذا لم تشغلها بمشروع سياسي للمستقبل أشغلتك بعوارض الانفلات والتشدد، الإرهاب تعبير عن انسداد الأفق وتعثر الطريق وضياع البوصلة وحسم الموقف بهالة من اليأس والعجز والتوقف عن فعل شيء.
مجمتعات العالم المتحضر لا تضطر إلى خيار العنف؛ لأن مسارب التغيير والتأثير مكثفة ومتعددة، تستهلك نزوات النفوس وعطشها للمشاركة، ولديها مشاريع قومية تستهلك طاقتها وتستحوذ على تركيزها.
الإرهاب حيلة العاجزين، التكفير والتشدد الديني مجرد مطية لخلق التبرير وتخفيف ضغط الضمائر تجاه فظاعة السلوك، والأعمال الخسيسة تحدث في المرة الأولى بمبررات نبيلة، وإذا عجزت الجماعات عن استصدار مبرر شرعي اختلقت مبرراتها الأخلاقية وربما الوطنية، المسألة ليست صعبة تمامًا.
ستتكرر موجات الإرهاب إذا لم تتحرك الأمة باتجاه العمل الجماعي من أجل المستقبل، من أجل تحسين الظروف، وخلق بيئة واعية وعاملة، لا تترك فرصة لاستثمار جفاء روح وفجوة وعي وضغط واقع لتفخيخ العقول والأجساد.
بالمناسبة، إذا لمست فيما سبق أي محاولة للتبرير فأنت لم تخرج من ورطة الاستقطاب العبثي، وإذا اتفقت على كونه محاولة جديدة للتفسير، ربما تكون في الطريق المناسب الذي يجمع شتات المتأففين من حرب التيارات والباحثين عن حل حقيقي، يجمع الصفوف ويصلح الظروف.
وذلك أول الطريق الصعبة في سبيل الإصلاح.
واللهم احفظ بلدنا من كل الشرور، آمين.
تعليقات
إرسال تعليق