عن قصة شخصية لا تهمّك بالضرورة
يحدث أن يعيد الإنسان النظر في تاريخه
الشخصي ، عن نقاط فاصلة جاء ما بعدها خلاف ما كان قبلها ، عن إضافة شخص أو عادة أو
معنى إلى حياته ، فانقلبت رأساً على عقب ، وتحولت على نحو يرسخ تلك اللحظة ،
ويجعلها منطلقاً لعمره الحقيقي ، وانبعاثاً لحياته المختلفة .
ماذا لو كانت تلك اللحظة ، هي كونك
أصبحت قارئاً نهماً للكتب ؟ وهذا الوصف بحد ذاته مغرٍ جداً ، وتعبير سخي عن نمط
حياتي راقي ، ومن الطراز النبيل .
ولذا أقول بكثير من الاستعراض - الذي
لا أخجل منه - أنني أصبحت قارئاً منذ عشر سنوات بالتمام ، إنه عمر قصير بالقياس
إلى تلك النماذج العظيمة التي التهمت أطناناً من المؤلفات ، وقطعت أشواطاً من
عمرها في سبيل القراءة الدائبة ، ولكنه عمر مؤثر ، ومثمر ، وزاخر .
وهو ارتباط العاشق الذي يقدم حصص
القراءة اليومية على كل ملذاته ، وربما على واجباته ، وذلك اعتراف خطير ، وسر أسير
، أصبح متاحاً مشاعاً بغرض الاستعراض أولاً ، ثم التأريخ لعلاقتي الشخصية مع هذه
العادة النبيلة .
وإني أصفها غير مكترث بالنبل ، لأنها
تنعكس على حياتك بالطهر والفضيلة ، وهل هناك أنبل من مطاردة الحق في كل مظانه ؟
ونشدان المعرفة في بطونها وعيونها ؟
والقراءة عادة جادة ، تكلفك مشقة
ووقتاً كبيرين ، ومع الوقت وبفضل مجاهدة العادة ، ستمنح وسام الاستمتاع بهذه
الممارسة الشاقة ، استمتاع لا متناهي ، تثمل من شدة إبهاره ، وتغيّب في أسراره ،
وتطوى تحت إزاره .
لقد مضت السنون بسرعة خاطفة من جهة
أعمارنا المعدودة وأيامنا المرصودة ، ولكنها مضت بهدوء من جهة بناء العقل ، وتمتين
الذهن ، وتثمين الفكر ، وتسمين المعارف ، وقد يتوقف الإنسان عند عشريات عمره ويكتب
عنها وفيها ، وهي ليست إلا مجرد أرقام متكومة وأعمال متوهمة ، أما إذا جعل تلك
العشريات هي محض ما ذرعه في طول العمر القرائي ، وقضاه بين جنبات مكتبة أو صفحات
كتاب ، فذلك لعمري هو العيش الحقيقي والحياة الطيبة .
القراءة تعطي لحياتك معناها ، تخلصك
من تلك الرواسب الثقافية التي تعلق في ذهنك ونفسك من عواصف التنشئة الارتجالية ،
فتخف روحك ، وتطير بها متحررة من أثقال التقاليد البائسة ، إلى فضاءات التنزه
والتجلي .
القراءة عادة فاضلة ، لأنها تمحّص
فؤادك من المؤاخذات المتوهمة ، التي تنطلي ببساطة على الأفهام السطحية ، تلك التي
تمنعك من حياة عميقة ، مؤمنة ، مقبلة على الحياة كما ينبغي لجلال روعتها وعظيم
جوهرها .
القراءة تعيد ترتيب أفكارك عن الحياة ،
ترزقك الهدوء ، وذلك لأنها تعطيك مفاتيح الأشياء التي استغلقت على الجاهلين ، تمنحك
أدوات الفهم ، وهو الطريق لبسط الطمأنينة في أعماقك .
بالقراءة ، لا تعود المصائب والمثالب والمعائب
تهدد استمتاعك بالحياة ، فهي لم تخلق إلا عرضاً في سير حياة دائبة بالنجاح والتقدم
، منغصات تنبهك عن ذهولك بحياة مسرفة ، موغلة في تناسي مسؤولياتك وواجباتك العظيمة
.
والقراءة تقبض بتلابيب يومياتك ، كأن تختلف
معايير إشباعك وإنجازك الشخصي ، في مقادير ما قرأت ، وعمق ما حصلت عليه من نبعها الدافق
، تقيس قيمة يومك ، وحياتك ، تبعاً لما قضيته سادراً ، هادراً بين الكتب والمؤلفات
.
القراءة ليست ممارسة أنانية ، ولا تعزلك
عن الواقع والناس ، بل تعيد تموضع كل الأشياء في زواياها الصائبة ، وتزنها بقسطاط العدل
والمواءمة ، حتى لا تذهب بك رياح التداخل والتشابك التي تعرقل حياة اللاهثين عن المجهول
.
وبالعودة إلى تجربتي الشخصية مع القراءة
، فإني قد أقضي ساعات تقترب من العشر أحياناً ، منكباً على الكتب ، وقد أصرف جملة يومي ذاهلاً عن مضي الوقت ، منشغلاً بصفحاتها
، لا يقطعني إلا رشفات كوب الشاي الموغلة في الخدر .
وفي عرض القراءة ، قد تغرورق عيناني بالدمع
إذا ما طار جناني لشدة وقع بعض الأفكار والأنوار التي أجد فيها حلاوة وطلاوة لا تضاهى
ولا توصف ، وقد تجدني أحياناً ، لشدة ما اقتطع سير القراءة بنشيج الفرح والتأثر ، كأني
متبتل من سلف الأمة يتأبط ذنوبه ويتملق ربه .
وفي بعض تضاعيف علاقتي بالكتب ، يصدف أن
أصرخ بصاخب صوتي ، إذا ما أذهلني معنى عميق ، أو لطيفة ظريفة ، حتى اعتاد أهلي على
بعض عوارض الجنون التي تتلبسني وأنا غارق بين كتبي وسادر في طقوسي .
وإذا ما نويت البدء في القراءة ، أوصدت
باب الغرفة ، وسددت بعض ثغرات يمكن أن يتلصص منها فضولي ، لشدة ما أحب الاختلاء بنفسي
وقتئذ ، والانفراد بكتبي ، والانقطاع عن أي مثير يمكن أن يعكر استئناسك ويبطئ سيرك
، مؤمّناً حافظات الشاي التي تتدفق بدون توقف ، والكوب الذي أرهقه هطل الماء الأحمر
الغارق في دكنته .
إنك فاقد نفسك في القراءة حتى تجدها .
وقد يستوحش الإنسان عادة القراءة عندما
يرى حجم النفور منها والاستنكاف عن سبلها ، وقد يستثقل تكاليفها الجادة وشروطها الغليظة
، أو يسأم من روتينها واعتيادها ، ولكنه يوم يتبين أثرها في سلوكه وتفكيره ، يتمسك
بها ويعتصم إليها ، وقد اغتسل بقناعة التجارب ، واعتكف في محراب المراقي والمطالب
.
وتجد في القراءة مكابدة شديدة للمعاني
، التي يقصدها الإنسان في سعيه ، ويحج إليها القارئ في حثيث اجتهاده ، وتلك غاية الإنسان
من القراءة .
لأن فيها تحسين لظروف الحياة وشروطها ،
بحيث ترتفع بأفكارك إلى المعالي ، وتستوطن فيها المعاني الفاضلة ، وتزاحم بوفادات
القراءة كل نزق وشر من حياتك ، حتى تطهر وتنقى كثوب جديد .
كما أن فيها تطويراً لنسختك الشخصية ،
بحيث ترقي من إمكاناتك ، وتضاعف في قدراتك ، وتحصل على أكبر إمكان ذاتي للنجاح
والإنجاز والتأثير ، وبالأحرى تحصل على " الدور " الذي ينتظرك ، وتتجاوز
عروض الأدوار المستنسخة ، وطوابير الهاملين الذي يرزحون في أدوار لا تليق بهم ،
ومنازل لا تستحقهم .
أخيراً ، أعتذر عن إملالكم بهذا الاستعراض
محاولاً الاتصاف بالقارئ النهم ، ولكنه استعراض يساعد في تعميق صفتك كقارئ ، ويضاعف
من مسؤولية الدأب والاستمرار الذي ينتظر وفادة كثير من رجالنا ، ليزيد من قيمة استعدادهم
لتحمل المسؤولية ، والانبراء بأدوارهم في خدمة الأمة والمجتمع ، ولن يكون هذا بسوى
إعداد النفس في معامل القراءة المنهجية الدائبة والجادة .
ومن الجميل اليوم أننا نرى بشائر ذلك في
الأفق ، إذ رويداً ، رويداً تصبح هذه العادة مشاعة في تقاليد الشباب ويومياتهم ، وإذ
ذهب جزء منه في سبيل التظاهر والاستعراض ، ولكنها عثرة في الطريق الصحيح ، ولعل ذلك
الطريق ، يضيق بالمستعرضين فيتحولون عنه ، وتبقى القراءة للجادين ، والجادين فقط .
جميل جداً..😴💐
ردحذفجميلة جداً تلك النقاط التي سطرتها وهي بمثابة الطريق لكل من فقد حساسية القراءة والاستمتاع بها فهي فعلاً تجمع لك تلابيب يومياتك وتحسّن من نمط حياتك فكلما تمت تغذية العقل وتسمين الفكر تم القضاء على فراغ الترهات التي ليس منها فائدة وأصبح الإنسان نيراً بفكره وتصرفه وكذلك ينعكس إيجاباً على مجتمعه
ردحذفدمت في رعاية الله وتوفيقة
من أجمل العبارات التي وقعت عليها عيناي ( إن أمة لا تقرأ لهي أمة تحفر قبرها بكلتا يديها ) هنيئا ما وصلت إليه أخي عمر .. اشكر المنعم عليها
ردحذفالقراءة تعدت مراحل المعرفة إلى مرحلة العيش الذي لا يتم إلا بها هنيئًا للكتب صداقتك
ردحذفما إن وصلتُ إلى نهاية المقالة وددت أن لا تنتهي، لجمال وروعة ما كتبت، فهنيئاً لك يا صديقي انضمامك لنادي القرّاء الجادين، وهذ العادة الحسنة التي تلازمك، وكما قال الشقيفي "هنيئاً للكتب صداقتك".. وفقك الله.
ردحذفلا يهم ما قد كانت السنوات قليله ، أو البداية المتأخرة
ردحذفالمهم كم قرأت و ماذا خرجت بعد تلك السنوات ..محدثك حديث قراءة يتمنى أن يصل إلى ما وصلت إليه أنت و أن يحقق لو جزء مما حققت
فهنيئاً لك ما وصلت إليه من مصافحت الكبار والكتابة لتنير طريق الآخرين و تكون نقطة تحول في حياة البعض
علي الخالدي