{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } النحل 78 .
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } الإسراء 36 .
ها هي العدالة الإلهية تتمثل في هذه الآية التي أبدت معالم المساواة الحقيقية منذ أمد بعيد ، فنقطة الانطلاق واحدة لجميع الأجناس البشرية والأعراق .. حيث الجهل واللامعرفة .
يُذكر أن الكفاءات العقلية متساوية بين الشعوب والأمم ، على أساس من العدل الإلهي الذي يقضي بالتساوي بين الناس دون تمايز أو تفرقة .
ثم على هذه المجموعات البشرية المستقلة بناء عقليتها الجمعية وصقل مواهبها على حدة دون الأخرى ، وعلى قدر إيمان الشخص أو المجموعة بدورها المنفصل في تعزيز عقلياتها ودعم مواهبها تكون النتيجة .
والدليل على أهمية دور الفرد نفسه في تحصيل العلم ومسؤوليته في تطوير ذاته ما نصّت عليه الآية من عوامل الإدراك الذي أنعم الله بها على البشرية ، حيث بها يعقل ويفهم ويحذق ثم يعمل ويتحرك وينتج ليتذوق ويظفر ويحوز .
العقل هو وعاء العلم والفهم ، والحواس هي الموصلات الفعلية لكل معلوم ومفهوم ، وعلينا أن نطور من قدراتنا الإدراكية وتوسيع إمكانات هذه الحواس ؛ لنقل إشارات دقيقة وواضحة وتوفير بيانات غير مشوشة أو مشوّهة ، سيما إذا علمنا محدودية هذه الحواس وضعفها .
ولعل ذكر الأفئدة في هذا السياق – مع الأخذ باختلاف الأداة العاقلة بين المخ والقلب – من باب أنه على المرء أن يصل به شغف العلم وطول السؤال ما يوقر في صدره قيم الفضيلة والاعتدال ويهدي قلبه إلى كل خير ونفع لنفسه ومجتمعه والإنسانية جمعاء .
فإن العواطف والأهواء أبداً في صراع مع المنطق والعقل ، وإذا ما قيدت الأخيرة بخطام من الهوى كان مقتل الإنسان ومصرعه ، وإذا ما تم خلافه اهتدى إلى الصواب وزمّ نفسه بالفضيلة والخيرية .
والعلم الذي لا تعقله بفؤادك حتى ينزل منزله الإيمان والاعتقاد الجازم المنتهي إلى الفعل والتحرك لا نفع فيه ولا يحملك إلى مضي جاد نحو العمل إلا على سبيل التظاهر والمراء .
ولذلك لما سأل عبد الله بن عباس – رضي الله عنه - عن مقدار العلم الوافر الذي حازه وكيف له بذلك قال : " لسان سؤول وقلب عقول " .
ثم أورد الله تعالى صمام أمان العلم ( لعلكم تشكرون ) .. فإن العلم إذا ما دار في فلك الربانية والتصق بهذا السقف كان في خير من أمره ، وإذا ما انحنى نحو المادية المسرفة وخسر صفقته مع الإرادة الإلهية وابتعد عن القيم السماوية الراقية تجهّم في وجه الإنسانية وتنكب طريق الحق ونقم على البشرية كلها .
العلم الحقيقي هو ذلك الداعي إلى التوحيد والإيمان الذي يدفع بالناس إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى فسحة الآخرة هو العلم الذي يستنقذ البشرية من دياجير الضلالة وحيرة الشك والقلق وخيبة النفس أما العلم الذي يولد في غير هذه الرحم فهو هجين مشوّه لا يعيش طويلاً ولا يتسق مع عطش النفس إلى الإيمان .
وبالعودة إلى مسؤولية الفرد أو المجتمع في نقل نفسه من الظلام إلى النور ومن الجهل إلى العلم ، ودوره في استغلال ما أوتي من أدوات وتوظيفها على النحو الذي ينفعه ويعود بالخير على مجتمعه ، يحذر الله – عز وجل - من مغبة التقول على الله بغير علم وينبه على آفة التعالم التي يتعاطاها ضعاف النفوس ممن خارت قواهم دون تحصيل العلم الذي يتطلب كثيراً من الجهد والمشقة .
ثم يعود اللوم ويشتد في ظل إمداد الإنسان بعوامل الإدراك والاستعدادات الكافية والأسباب المعينة والأدوات التي يأخذ بها المرء في طريقه لينهل من فيوض العلم وفتوح المعرفة وكشوف الحقائق .
فالسمع الذي تتناول به علوم الرواية وتسمع به تجارب الأمم وتصيخه لأهل الفضل والرأي والمشورة والحكمة وتمر عبر قنواته الآداب والفنون والموسيقى فتلين النفس ويهدأ الطبع وتزهر اللغة ويورق اللسان وتقرأ التاريخ المنطوق فتصلب خلفيتك وتستميلك براهين الفلاسفة ومناطحة المنظرين ومثاقفة المفكرين ودلائل المناطقة فيتسع بصرك بالأمور وينضج عقلك في عمر الزهور .
والبصر الذي تجول به في الطبيعة وسحرها العذب فيرق طبعك ، وفي الأفلاك والأجرام والأنواء فتذهل لعظمة خالقك ، هذه الأداة التي تقودك إلى أعظم حقيقة وتصلك بأرفع معلومة وأنفع معرفة تذهب بك إلى إلهك وخالقك وملهمك عبر هذا الفضاء المترع بالحقائق وهذه العجائب السابحة في عرض الكون .
والقلب الذي تستقر فيه ثمرة العلم ونتاج المعرفة وعصارة الخبرة ، هذه المعضلة التي تعي بها العلم ويدير وجهتك ويقود زمامك وتسكن فيه بصيرتك فإذا أحسنت سقياها أورقت الفضيلة والخيرية وإلا ألزمت بالمساءلة وعرضت للوم .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } الحج 46 .
في هذا القلب ينتهي العلم ومنه يبدأ العمل والتحرك نحو أعظم لصيقين في الحياة : العلم والعمل ، فإذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد العمر كله .
ثم يعود التأكيد الذي لا يقطعه ظن واليقين الذي لا يغتاله شك ، إنما يعلّم الإنسان نفسه ويقود المجتمع أبنائه إما إلى الخير أو نحو الشر والسوء سيما وأن الفرص متساوية والجميع ينطلق من نقطة واحدة في مضمار الحياة الطويل .
ولذلك كان المرء مسؤولاً عن نتيجة التعالم وهو الوحيد المرهون بدفع فاتورة التسلق على جدار العلم المتين واختراق حصنه الحصين ، كما أنه هو الوحيد الذي سيحتفل به في حال عكف على تطوير نفسه ووظف طاقاته وشحذ أدواته وسجّل اسمه في قيد العظماء والعلماء والناجحين .
هو بمفرده !!
الرابط :
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
التسميات
البندر الإلكترونية
التسميات:
البندر الإلكترونية
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
تعليقات
إرسال تعليق