" لعلكم تتقون " يبدو وأنت تقرأ القرآن أن ما بين القوسين أعظم غاية يحث إليها القرآن ويبتنيها الإيمان في جوف الإنسان.
التقوى بمعناها التعبدي والمعاملاتي، العبد التقي النقي الخفي، الذي يبلغ درجة الإحسان ويعيش دنياه مبصراً الله في كل سكناته وحركاته، وراغباً إلى رضا الله في كل خطواته.
التقوى التي تجعله يقبل على الخير كله، ويكف عن الشر كله، الشر الذي يغضب الله أو يهلك به نفسه أو يؤذي به غيره.
التقوى التي تتجاوز التدين الشكلاني، إلى الإيمان الحقيقي النابع من قلبه، ويغمر ذهنه، ويكسو سلوكه، ويشده إلى غايته النهائية الفاضلة، التقوى التي تحكم سلوك الفرد، وتنسكب في الحراك العمومي، التقوى بكل حالتيها الشخصية والاجتماعية.
سواء كنت عالماً بارعاً أم عابداً متبتلاً فإن هذا لا يساوي قيمة إذا كان جانب الأخلاق لديك متواضعاً وضعيفاً.
بل إن العلم الذي لا يطور مستوى الأخلاق لديك، والعبادة التي لا تطهرك وتزكيك، مفلسان تماماً ولا يرجى منهما نفع في الدنيا أو الآخرة.
تبدو الأخلاق وكأنها تلك الغاية النهائية للعبادة والعلم على حد سواء، أو أن العلم الحقيقي هو المعرفة لها والعبادة هي العمل بها.
ولأن الأخلاق هي جهاز مستقل لدى الإنسان، فإنك تجد عالماً حاز جملة العلوم الجليلة والدقيقة، أو عابداً انقطع لصلاته وصيامه حتى كان يطأ الجنة قبل موته، ولكنهما يخسران أخلاقهما عند أول امتحان يصادفهما.
إن الأخلاق مرحلة من التنزه وتزكية النفس عبر هذين العاملين، إنها المجاهدة المستمرة؛ لتغليب ما يرضاه الله ويحبه وخفض حساسيتك تجاه الانتصار لنفسك وتغليب مصالحها ومواجهة دوافعك الأنانية والحيوانية التي تغالبك.
بل ربما كانت الأخلاق هي حالة التقوى الإنسانية التي تشترك فيها قطاعات البشر على اختلاف أديانهم وأجناسهم، وهي الغاية التي خلقت لها المواثيق، ونزلت بها الكتب، ودعت لها الرسل، والقيمة التي يحاسب على أساسها الإنسان ممن رفعت عنه الحجة، هذا إذا توسعت مفردة التقوى لتوافق ما جاء به ثابت الوحي وسائد العقل والمنطق.
ويبدو أن زمن الصحوة الدينية بوصفها نقطة الاتصال الأكثر فاعلية بين الدين والمجتمع في الزمن العربي المعاصر، بددت هذا الهدف، وخفضت مستوى التقدير له والاحتفال بتمثله.
ربطت القيم الأخلاقية بالدين بشكل أقرب للمصادرة، وأصبح تمثلها مشروطا مسبقاً بالشكلانية الصحوية التي رسمتها حول متلازمة المطوع / الأخلاق، حتى أصبح الدور متبادلاً بطريقة لا يمكن الفكاك بينهما.
وعندما انصرف المجتمع عن نمط المطواعة الصحوية الغارقة في شكلانيتها، انكشف المجتمع عن مستوى أخلاقي متذبذب، ولم تعد كل المجالات قادرة على الحفاظ عليه أو معالجته (المدرسة، البيت، المجتمع، القبيلة، المسجد) بل أصبحت الأخلاق لقمة سهلة للمصلحة الضاغطة وعبث التوظيف الانتهازي.
المصادرة جاءت من العادة الاجتماعية كذلك، بحيث تكون الأخلاق النبيلة مفتاح دخول إلى الفضاء الاجتماعي أو خروج منه، وتضيق المسألة أكثر عندما تكون الأخلاق رهناً بالتقاليد القبلية ومصلحة الجماعة.
والأولى في القيم الأخلاقية أن تتناولها الأجيال مجردة حتى لا تخضع لإرادات مصلحية وتفسيرات مجالية ضيقة لمراكمة تمايزها والحفاظ على نسقها المنضبط؛ عبر احتكار الحق في تمثل القيم.
كل محاولات القبض على المجتمع عبر بوابة العبث بأخلاقياته وقيمه العمومية المطلقة ينتج مجتمعاً مشوهاً ومرتبكاً، ويفرغه من جوهره المتين وأصله الرصين، وبذا يكون المجتمع مستعداً لكل الويلات المزعجة والعيبات المفجعة.
القيم الراسخة التي تحكم تعامل المجتمع وتحافظ على وجوده ينبغي أن تتجاوز مجرد (العرف، العادات، التقاليد) وتنأى عن محاولات الإحكام والتوظيف من المؤسسة (الدولة، الصحوة، القبيلة).
كل مؤسسة تقترب من القيم العمومية ستحاول تجميدها عند نقطة معينة؛ لاستغلالها والحصول عبرها على مكتسبات اجتماعية تطفح بالتمييز المجالي والتفسير المحتكر.
المجتمع ومن واقع سنن الكون الصارمة عرضة لمراحل من التغيرات والتحولات، وإن لم تكن منظومة القيم متماسكة بما يكفي لحماية المجتمع فسدت الأخلاق وذهبت الأمة، والقيم التي يجب أن تكون في رأس الأولويات والاهتمامات تتراجع لصالح مكتسبات الحزب والأيدولوجيا والغلبة.
الصدق والانضباط، والجزاء مقابل العمل، والحرية الفردية، والمصلحة العمومية، كلها قيم تستلزم منظومة أخلاقية متسامية، ولا تغفل عن حالات الاضطرار التي تعترض حياة المجتمعات أحياناً.
لأن القيم العامة تمتاز بحالة من الثبات النسبي، وتحتاج إلى آلية تطور مستمر تستجيب للظروف المتغيرة وتنضبط بالثوابت الوطنية، حتى لا تكون عبئاً على الأجيال أو غائباً عن مستقبلهم.
عندما جاءت الصحوة الدينية وفرضت تصورها في بناء المجتمع وصياغة تركيبته الذهنية والثقافية، ابتعدت عن " التقوى " بوصفها طريقة حياة قيمية وفردية مشدودة إلى الهدف النبيل والغاية الفاضلة، والتصقت بالشروط الشكلانية والأفكار المفارقة للعموم، واندفعت الصحوة لاحتكار منظومة القيم الاجتماعية عبر تثويرها دينياً وحصرها في القالب الصحوي للسيطرة على المجتمع ومحاصرته.
وبالنهاية، لا هي سارت بالمجتمع إلى بر الأمان الأخلاقي، ولا هي حافظت على حضور مفردة التقوى في واقع الناس، إذ انكشف المجتمع عن ويلاته الاجتماعية والقيمية التي كانت تنمو بهدوء تحت ستار الشكلانية الصحوية المطبقة.
خطط التنمية وخماسيات النهضة التي كانت تتبناها الدولة العربية هي الأخرى كانت تعتمد على تطوير المنظومات الإدارية والبيروقراطية للحكومة ومعاملاتها البينية، ولم يترافق مع ذلك أي نية لتحديث الآلية الاجتماعية.
حتى خطابات التنمية المدنية بصورتها الليبرالية والحداثية كانت تتجاور مع خطط التنمية الدولاتية وتتحايث مع أفقها المتحفظ والمتوجس، وبقي المجتمع متاحاً ومستباحاً للضخ الصحوي بعلاته الفكرية والثقافية.
الواقع اليوم يعاني من الاستخفاف ببعض القيم الراسخة، حرية الفرد المنتهكة، والكسب غير المشروع، والتكليف تبعاً للمكانة لا الكفاءة، والفساد المدعوم بغفلة اجتماعية أو رضا ضمني، والتبذير مع تجاهل مخاطر المستقبل، والعبث بالمكتسبات العمومية والثروات، ودواليك من البلايا والرزايا، ينزف منها الواقع وتهدد المستقبل.
الرافعة الدينية عبر مؤسساتها وخطابها مرهقة تماماً ومستنزفة من الخلافات الجانبية أو الاستدعاءات بغرض التوظيف، وكذا المنظومة المدنية بكل تلوناتها الفكرية متثاقلة أو متخوفة عن طرق الأبواب الموصدة، المجتمع بتكويناته البدائية لا يرقى إلى مستوى التأثير ومستسلم لقانون الخوف / المال الذي يطويه تحت عباءة الواقعية، مع غياب حاد لمؤسسات المجتمع المدني المؤثرة في واقعها بخطط التحسين والمعالجة.
وبقيت ثمّ أصوات تختفي في فضاء السائد، أو تغيبها قبضة الهوس الأمني بذريعة محاصرة الفتنة التي تطل برأسها من خلف الخطاب الإصلاحي المتمسح بالسياسة.
تعليقات
إرسال تعليق