بحصول الباجي قايد السبسي على كرسي الرئاسة في تونس بعد ظهور نتائج الانتخابات ، يبدو وكأن العالم العربي أعاد شريط واقعه إلى ما قبل " ١4 جانفي " مهد الربيع العربي ، من نقطة الصفر التي انطلقت منها سلسلة الثورات العربية ، من نفس شارع الحبيب بورقيبة؛ الذي احتضن الجموع الشعبية الأولى للثائرين العرب ، تعلن تونس انطفاء جذوة الثورات وكأن شيئاً لم يكن .
يبدو المشهد الاسترجاعي للواقع العربي واضحاً وصريحاً في تونس ومصر بعد خسارة الرئيس الإخواني المنتخب كرسي الرئاسة المصرية بعد ثورة ٣٠ يونيو التي أنتجت عزلاً عسكرياً، حصل بموجبه قائد العسكر عبد الفتاح السيسي على استحقاق الرئاسة ، في المقابل تحملت ليبيا وسوريا واليمن أعباء الآثار الأكثر سلبية وكارثية للربيع العربي .
ليبيا التي تعاني انقساماً حاداً بين فكر التأسيس لدولة مدنية ديمقراطية ولكنها تفتقد إلى معيل مؤسساتي وبنية دستورية منيعة يمكن أن تساعد في إرساء هذا الحلم في واقع ليبيا المتعطش ، وبين مواجهة مخاطر الإرهاب والعنف السياسي بمنطق القوة العسكرية التي لم تثبت جدواها في التاريخ تقريباً ، وهي لا تسير على حال طيبة .
واليمن تتجرع مرارات متضافرة للإجهاز على كل أمل في مستقبل جيد وآمن لأهل السعيدة ، إذ تتقدم جحافل الحوثيين للقبض على مفاصل الدولة والمجتمع ، ينازعها في هذا الحق المتخيل جماعات القاعدة المتشددة ، وكل ذلك يحدث تحت سمع ومرأى المجتمع الدولي المسكون بالسأم من تعقيد المنطقة الشرق أوسطية ، وتواضع إمكانات الدولة اليمنية واستلاب أزمّة أمورها .
وفي سوريا التي نالت حصة الأسد من ويلات الربيع العربي ، باستمرار شلال الدم الذي يكبدها المزيد من الخسارات البشرية والمادية، ويكاد يعود بها سنوات إلى الوراء ، فضلاً عن استئساد العنف المتشدد في نسخته الداعشية وأضدادها من الإرهاب الشيعي الذي ينمو في ظل صمت دولي مشبع بالرضا عنه والقبول به .
هذا جزء لا يكشف إلا عن جانب من الحقيقة المروعة التي انتهى إليها الربيع العربي حتى الآن على الأقل ، إذ يبدو وكأن ثورات الشعوب العربية التي استصرخت الحرية والعدالة والكرامة كشفت الغطاء عن كل ما ينطوي عليه المكون العربي من النقائص الكامنة والأحقاد المترمدة التي وجدت فرصتها للظهور إلى العلن .
إنه يكشف عن هشاشة الأنظمة العربية، وغياب مفهوم الدولة الحاد عن تكوينها الذهاني والجسماني ، وأنها عاشت لسنين عجاف وهي تسوّق نفسها، وتمجد مساعيها وتفاخر بما أحدثته في واقع العرب من صور الحداثة والتحضّر ، والحقيقة أنها لم تكن إلا بمثابة بناء حديدي وإسمنتي شاهق على قاعدة من الطين المعجون بالتزوير والخرافة ، ولعل نسمات الربيع العربي لو امتدت إلى دول عربية أخرى؛ لانكشفت عن مجد أجوف ودولة صورية بلا حقيقة .
لعل هذه الدماء التي تكبدها العالم العربي كنتيجة لربيعه يذكرنا بالممانعة السلفية الحادة ضد كل خروج على الحاكم خشية الفتنة ووقوع مفسدة أعظم من ظلم الحاكم كاستشراء القتل وضياع الحقوق وسفك الدماء وتسلط الأعداء .
رغم أن هذا الرأي الديني يحمل وجاهة يؤكدها واقع ما يحدث في سوريا بالتحديد ، ولكنه يعامل وفي خضم الحماس للربيع العربي وكأنه مغالاة في الطاعة وتمهيد للاستبداد وتأمين حمى الحاكم بتتريسه دينياً وعقائدياً ، يعضد ذلك ما يحدثه بعض السلفيين من المبالغة في الحساسية ضد كل نية للمشاركة السياسية المأمونة ، ضمن مدرسة فقهية اشتهر بتسميتها " الجامية " في بلاد الخليج .
غير أنه لا يمكن أن نحمّل هذه النتيجة المثخنة على الربيع العربي بوصفه انتفاضة شعبية وجماهيرية عفوية على الظلم والبغي وثأراً على سنوات من الضياع؛ التي خصمت من عمر الشعب العربي الذي كان يبتاع منتجات مزورة من الديمقراطية في أسواق نخبة عسكرية بثياب مدنية أو جبهة علمانية متمشيخة تعتاش على الوهم؛ ولكن التهمة كل التهمة تنوء بها تلك الأشكال المختلقة من الجمهوريات العربية التي وقعت بمحض الصدفة، أو تنفّذ اليد المستعمرة على كرسي الحكم لعقود .
حتى الحال المزرية للثقافة والمجتمع العربي الذي أكل بعضه في شكل حروب طائفية بغيضة تحرق ما تبقى من حلم للخلاص في سوريا واليمن والعراق ، أو صدام مستند على المحاصصة الاستعدائية بين إسلاميين وعلمانيين في ليبيا وتونس ومصر ، كل ذلك يذكرنا بأن هذه الأقليات المرعوبة على مستقبلها ووجوديتها كانت مجرد أوراق للتلاعب بيد الحاكم العربي المستبد الذي التقم العالم العربي وشعوبه المستضعفة .
إن الربيع العربي سيعود فيما يبدو بموجات ارتدادية لرفض كل وصاية تقبض على السلطة باسم الإسلام السياسي أو المجالس العسكرية المتنمقة في بدلة مدنية ، وعمر الشعوب العربية أطول من كل حاكم يمد ظله على الأرض ، ومعركة الدولة والشعب قائمة حتى آخر رمق في عمر البقاء الأرضي ، واللحظة التي تجد فيها العلاقة معنى التراضي والحكم المشروط؛ سينعم العالم العربي بربيع لا يكون لصلاحيته تاريخ انتهاء .
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق