التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عربة الخضار .. الانحياز للمغلوبين






لن يجد الفقير وفاءاً يشبه وفاء عربة الخضار البسيطة له ، تدر عليه الرزق وتحمل عنه الهم وتطرد منه الفاقة والعوز ، تقيم أوده وعوده وتحشو جيبه وبطنه .
بقيت عربة الخضار كل عمرها وهي تنتصر للمغلوبين وتنحاز للمسحوقين ممن يعيش في هوامش الحياة وعلى قارعة الطريق ، تتربص الناس عند المساجد والمطاعم والمراكز  .
تبتاع بضاعتها بثمن بخس وكأنها تراعي الحال ولا تطمع في استنزاف جيوب المعدمين كما يفعل الجشعون ممن يمتصّ الدماء والأموال ويزهق الأرواح والكرامات .
وقد لا تكلف عربة الخضار صاحبها سوى أن يجمع طاقته على دفعها باتجاه مواطن الرزق ، ولعله يدفع معها همه الذي يثقل كاهله ويرهق عاتقه .
بعجلات مرهقة وألواح خشب مكدود تشبه كثيراً حال صاحبها الأشعث الأغبر الذي ارتسم الأسى فوق حاجبيه وعلى خديه وخط تحت ناظريه ظلال الليالي السود التي عاشها .
تمشي ببطؤ وكأن رهقاً لحقها وجهداً يثقل حركتها ، تشبه انحناءة امرأة مسكينة مكبة على وجهها من ثقل ما لاقت من هذه الحياة ، تصدر صريراً وكأنه أنين الفقر وشدة الفاقة وصرخة غضب في وجه سلطان جائر .
هذه العربات الفقيرة معرضة باستمرار للمصادرة ، وكأنها صورة شبيهة بمصادرة المستبدين لكرامات الناس وحقوقهم واستنزافهم لجيوب المعدمين وسرقة ثرواتهم وحقهم في حياة كريمة وسديدة .

لا تتكلف العربات في استعراض بضاعتها ، فهي ليست أكثر من خضراوات وفاكهة لذيذة المطعم يسيرة المغرم ، وبكل بساطة يمكن أن تمد يديك وتكيل لنفسك وتقوم بحاجتك ، فإنها بعض بساطة الفقراء .
عربات الخضار فاصل صغير وشعرة ضئيلة بين الرزق الحلال وآخر حرام ، بين اليأس والأمل ، بين العجز وقلة الحيلة والقدرة والاستطاعة ، بين الرذيلة والفضيلة ، بين الموت والحياة .

لم يكن يعتقد حاكم ظالم مستبد فاشي يجلس على كرسيه الذهبي وعرشه المؤثل أن تزيحه عربة خضار رخيصة ، لم يكن يطوف بباله مرة أن ذلك المسكين الذي يجر عربته باتجاه المجهول يمكن له أن يحرق كل أحلامه برشقة بنزين زهيد .
مرة أخرى ، تنتصر هذه العربة للمسحوقين ، ترفع عن المغلوبين عوزهم والظلم الواقع عليهم ، تنتقهم لهم من طغاة الفساد والاستبداد ، وتمحو من ذاكرتهم عهود الخيبة والألم وترسم لهم مستقبلاً أكثر حرية وكرامة وغنى .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...