لا يؤذي الشعور الإنساني شيء مثل الاستعباد ، يخترق المثل الراقية ، ويهين الكرامة العالية ، ويطفئ نور النفس وجذوة العقل وحرارة القلب ورهافة الحس ، هكذا يطمر كل منفذ ومتنفس ويحجب كل بصيرة وبصر ويغذي الفساد ويطيل عمر الاستبداد .
الفرد له عبوديته الخاصة تجاه ظالمه وقاصمه ومنتهب حقوقه ، الشعوب كذلك يغرقها الانبطاح الجمعي في سلوك مهين مشين يسوّل للحاكم أن يتمادى في غيه وبهوه ، العقول والصفوة من الأمة لها صورتها من الاستعباد وهي إن لم تروج له وتعين الحاكم المستبد على شعبه فإنها تقع في خطيئة الصمت وتدفع جريرة السكوت وترسف في وحل الرضى والقناعة والتجاهل المميت .
- كيف يحصل الاستعباد ؟
( الخوف - الجوع - الجهل )
" الصفوة " بالترويض والإغراء لمن كان منهم سيء السريرة لين العريكة غير مكترث بقيمة ما يملك من علم ووعي ، يبيع قلمه ولسانه عند أول هدية ثمينة أو جلسة قمينة ، وهكذا يؤسس للخنوع ويجند لبث الخضوع وإشاعة رذيلة الركوع .
ومن كان منهم ثابت الجنان وحاد السنان وسليط اللسان ، معنياً بما يقول ومؤمناً ومسؤول تجاه الأمة والبلاد والعقول فإنه يتعرض لأبشع أنواع القمع وأقسى صنوف التنكيل حتى يموت حماسه ويفتر إخلاصه وييأس من خلاصه .
و" العامة " بالجهل والتسطيح فإن أقوى أدوات إدامة الاستعباد هو قلة الوعي وخفوت الاستنارة واستمراء سلوكات الإهانة والرضى المقنّع ، يتناول أبناء الطبقة المتوسطة محاضن التربية العبودية فمن منزل يؤسس للتربية الأبوية ، إلى مدارس تمجد الطغاة وتمارس التلقين سبيلاً للتعليم ، إلى وظائف تنال بالواسطة لا الكفاءة ، إلى كهولة التقاعد في أشد صنوف الحاجة واستنزاف الكرامة .
و" المطحونين " بالخوف والتجويع ، وإن كان الوعي من جنود التحرر فإن الخوف قائد الحرس القديم للاستعباد وهو المؤتمن على قلوب العبيد لا العباد ، يصور لهم الطاغوت في جثمان إله جبار متكبر ، والسجون قطع من جهنم الحمراء ، ومطالب الحق غضب السماء وفتنة الأرض ، وهكذا يتناولهم الخوف حتى يكاد يخنقهم .
- أخلاق الاستعباد ؟
نمو الفساد واستشراء هذا الداء في أجزاء البلاد واختناق العباد ومباءة البلاء والموت والنفاد ، والتزلف أقوى ما ينيل الناس حقوقهم وامتهان الكرامة أسرع الطرق لتمتين المكاسب وتحصيل المراتب ، ينتشر الفساد مثل غاز كيماوي صدّامي يسمم الأجواء ويفتك بالخلق ويشوه الأجنة ويهدد مستقبل الأجيال .
والطغاة في غيّهم يعمهون ، والدعاة في هذيانهم يسرحون ، والصفوة في مهاتراتهم ينشغلون ، بينما تنمو الأخطاء ويتسع الخرق على الراتق ، وينمو المتكسبون على جسد الوطن مثل بكتيريا قذرة على جلد متورم يطفح بالانتفاخات والاحتقانات أقرب منه للتسرطن .
الشعور بالمسؤولية يضعف ويتهاوى ، والحلول المؤقتة والجزئية والشكلية تشيع مثل عمليات تجميل يقوم بها طبيب بيطري في خلقة امرأة هوليودية حسناء بالفطرة ، ويبدأ مستوى الأمانة في الانخفاض ولا يزيده الضخ الديني إلا مراوغة ، والنفخ الوطني إلا نفاقاً ، والمثالية الفكرية إلا حجاباً غليظاً دون مواجهة الحقيقة والاعتراف بالخطيئة .
كل شيء يتبدل ، الأخلاق الحقيقية نفسها تتحول إلى مسخ مشوه مخيف ومروع ، ومنطقة المسؤولية والأمانة أطلالاً دارسة وبيتاً مهجوراً تنفخ فيه الأشباح همهماتها المؤذية ، ويموت الصالحون غيظاً أو خوفاً من طامة عظمى لا ينجو منها سوى المصلحون .
يؤتمن الخائن ويكذب الصادق ، يسيد الجاهل ويهمل الكفؤ ، تبور الأخلاق وتضيق الأرزاق ، تنمو الأموال ويزيد الفقراء ، الراضون هم الوطنيون والقانعون متعبدون مطيعون والمتأففون عصاة وعملاء مأجورون ، تبدد الأموال وتسوء الأحوال وتضيع الأجيال وتفسد أخلاق العيال ويسحق العمال ويتأنث الرجال ويخون الأبطال وتقتل الآمال .
- في الخلاص من الاستعباد ؟
مداواة أسباب الاستعباد ( الخوف - الجوع - الجهل ) والرغبة في التغيير والضيق مما بلغه الحال وانتهى إليه المآل ، والاستعداد الكافي لدفع فاتورة الانتقال وتحمل مسؤولية العمل على الإصلاح الجذري والتعاضد ليصبح المجتمع أمام مسؤوليته دون تخاذل أو انسحاب ، لأن الانسحاب في غير وقته يكتب ورقة الأبدية في حق هذا الشعب وربما يحرض الطاغية على الإيغال في الاستعباد والدموية وسحق الشعب .
الصدق والأمانة والنزاهة ، فإنه لا يصلح الأمر بغيرها ، وتجار الحرب وسراق الثورات وصنوف المستغلين لكل بادرة فتنة أو سانحة فوضى هم أكثر من يؤذي المجتمعات التي لن تتخلص بسوى هذه المبادئ الأخلاقية الفاضلة وإلا فإنها تستحق ما وقعت فيه من ظلم وفساد واستعباد .
اجتثاث كل ما يمت إلى الماضي بصلة ، يجب أن تغتسل الأرض من جموع الخائفين والجائعين والجهلة ، ليس الجهل والخوف والجوع هو العيب الحقيقي ولكن ما تورث من تقاليد وأخلاق تشيد للفساد بنياناً وللاستعباد عمراناً ، وفي الاجتثاث لا بد من ( عفو المقدرة وتسامح المنتصر وعدالة الحق ) أن تحضر فإنها الضمان من الظلم والخلاص من الطغيان والتعافي من الاستكبار والديكتاتورية .
غير متناسين أنه لا بد من مخلّص يأخذ بزمام المبادرة حتى يحترق جسده ، وحنجرة تصرخ بالحق حتى تقتلع من مكانها ، ونفس حرة تشيع قوة الحق حتى تحتبس في سجون الطغيان ، وقلم واثق يشق ظلام الاستعباد ثم يلتف حول رقبته حبل الإعدام حتى ينتثر حبره مسفوكاً على عتبة الحرية .
ولابد من ضحايا فإن فتنة القتل طالع الحرية ، والإيغال في الدماء حيلة العاجزين من الطغاة ، وجنّة الأغبياء من الحكام الفاسدين ، والحق منتصر لا محالة .
تعليقات
إرسال تعليق