السبت ٧ / ١٠ / ١٤٤١ حلي
وصلت البحرين ضمن جولتي حول دول الخليج ، الأجواء شبه شاتية ، سكنت في منطقة الجفير ، وحسب ما فهمت من سائق تاكسي مواطن أنها منطقة مستحدثة بعد ردم البحر ، وإنشاء الفنادق الشاهقة والشقق السكنية التي يغلب فيها الأجانب والنزلاء العابرين .
بطبيعة الحال ، كانت الانطلاقة الأولى من " باب البحرين " وهو منطقة تاريخية وسوق قائمة حتى اليوم ، يبدو المكان غاصّاً بالعمالة الأجنبية ، ويسعك رغم ذلك أن تتلمس روح المكان والطابع المحلي في التصميم الذي كان يراعي الحاجات البسيطة للسكان قبل أن تتسع مع التطور العصري للبلاد .
منطقة لا تُملّ نتيجة الحركة الدائبة فيه ، كما أن المكان يلبي رغبتي في التسكع وسط الأزقة الضيقة للتأمل في طبيعة الحياة وتفاصيلها الصغيرة التي تحتفظ بالطابع دون رتوش ، قررت أن أمضي في الطرق حتى تتعب قدماي .
بالغوص في الشوارع الخلفية لباب البحرين ، بدأت تظهر الحسينيات مزينة بالشعارات القماشية والواجهات المزخرفة والأضواء الموزّعة على بواباتها ، وددت لو استطعت الولوج في إحداها ، ومجالسة مجموعة من كبار السن عند أحد عتباتها ، لكنني ترددت وتوقفت عن ذلك .
ذهبت إلى " المحرق " التي تحتفظ بأكثر المناطق عراقة وقدماً في البحرين ، ينبغي أن تقطع منطقة مائية تفصل بين الطرفين ، توقفت على حافة شاطئها ، إذ تبدو البحرين بأبراجها العصرية الشاهقة مختلفة من هذه الزاوية ، وهي تتطلع لتتساوى مع بقية جاراتها الخليجية في المنازلة العمرانية المحمومة .
واحدة من مزايا البحرين أن سائقي التاكسي يغلب عليهم المواطنون ، العمل في المواصلات يوفر دخلاً جيداً بالنظر إلى المستوى الاقتصادي الأقل بالنسبة لبقية جيرانهم الخليجيين ، كما أن طبيعة المجتمع العملية تاريخياً تدعم هذا السلوك ، وهذا يعطي ميزة الاحتكاك بمواطنين محليين وفتح نوافذ لفهم البلد وطبيعة العيش فيها ، لقد خضت الكثير من النقاشات التي لا تزال عالقة في ذهني .
مع الرجل المسنّ الذي أقلني من منطقة المطاعم الحديثة في جزيرة أمواج إلى بيتي في الجفير ، كان شيعياً حسب ما وقر في صدري ، ويبدو مستاءاً من بعض القرارات الرسمية وأعداد المجنسين الأجانب ، وآخر في متوسط العمر تحدث عن الفرص التي أخذت تضيق في سوق العقار الذي كان بارعاً فيه قبل أن يجفّ ينبوعه بسبب الظروف غير العادية التي عصفت بالبلاد ، عن ربّ العائلة السنّى الذي نقلني من قلعة البحرين وتحدث عن قضية خاشقجي وتعرف عن طريقي على لجنوب السعودي وتنوعه الجغرافي والديمغرافي ، مع الهندي الذي عرفني على المناطق السنية والشيعية وتوزعها في البلاد ، عن أحياء الدرّاز وجاراتها التي تضمّ أغلبية شيعية وكانت موطن الأحداث التي وقعت عام ٢٠١١ ، وعن الفرق بين المساجد والحسينيات ، سائقو التاكسي أشبه بكتب سمعية ثرية وممتعة .
لقد زرت الكثير من المتاحف الفنية والمواقع الأثرية والمعارض الشخصية والمولات التجارية والأسواق الشعبية والمطاعم والمقاهي المشهورة والمواقع التي لا يمكن تفويتها ، لقد كان جدولي زخراً ، ويومي لا يهدأ ، وأنا لا أفوّت دقيقة واحدة بعدم استثمارها واستغلالها حسب جدول شخصي معدّ سلفاً وتتم مراجعته مساء كل يوم لضمان تحقيق أعظم استفادة من هذه الزيارة الاستكشافية .
وقد صادفت مناسبة ثقافية ليوم الشعر العالمي في طرف " باب البحرين " ولمست العمق الحضاري للتجربة الثقافية البحرينية ، رغم ما تسببت به الأحداث السياسية من خفض الفاعلية والشلل العام في الأفق الثقافي والنشاط الفكري للبحرين وأهلها ، بما جعل بقية جاراتها يتجاوزونها ببعض المسافات غير اليسيرة .
واحدة من الأشياء التي أثارت استغرابي ، أنه لا توجد شواطئ مفتوحة ذات بال في البحرين ، حتى الموجودة منها يبدو عليها الإهمال وعدم التجديد ، ورغم أن بعض الفنادق الفاخرة لها شواطئ خاصة تبدو محل اهتمامها وتطويرها ، تحاول البحرين فيما علمت تطوير الاستثمار في الشواطئ وسياحة البحار المفتوحة في الجزر الجديدة التي استحدثتها وأولت شأنها لمستثمرين .
زرت المتحف الوطني وبه الكثير من التاريخ الاجتماعي للبحرين ، الذي يتشابه مع بقية محيطها الخليجي مع غلبة الطابع البحري بحكم إحاطة الماء بها تماماً ، وللبحرين عمق تاريخي حسب ما عرفت وشهدت في هذا المتحف الذي يوثق هذا التسلسل الثري منذ كانت تسمى " الدلمون " وحتى الآن ، وقد بقي لجيرانها بضراوة جغرافيتهم الواسعة وللقوى الخارجية الراغبة في استثمار موقعها ، تأثير كبير في دعم ورعاية حيويتها التاريخية واتصالها بالعالم الخارجي ، كثمن ونتيجة .
في قلعة البحرين المشرفة من جبل شاهق مطلّ على البلاد ، وعلى حافة الماء ، شدّني المكان أكثر من مقتنياته ، وقد بني بجانبها معرض حديث يوثق علاقة الأرض بالبحر ، وتعالقهما التاريخي حتى أضحت على ما هي عليه اليوم من عمران وإنسان وعصرنة .
بخروجك من قلعة البحرين ، وأنت تؤم وجهك للخروج ، تجهرك المدينة الحديثة بأبراجها الشاهقة ومبانيها المعانقة لأفق المكان ، صورة بانورامية عن حجم التحول في البلاد ، لا تملك إلا أن تشيد به وتصفق له ، أدرت كاميرا الهاتف لألتقط هذا المشهد ، وطوابير السيّاح الأجانب تتزامن نزولاً وصعوداً في معارج القلعة ، فيما يمارس أبناء البلد كما يبدو لي رياضة المشي ، سيما وأن المكان مهيأ لذلك .
لحسن الحظ ، ترافقت زيارتي للبحرين مع افتتاح بيت القصيبي ، الوزير والدبلوماسي والشاعر السعودي غازي بن عبدالرحمن القصيبي ، الذي تربطه بالبحرين علاقة وطيدة ، حتى استقرت عائلته أخيراً ، المتحف يقع في بيت أحد أجداد القصيبي ، وقد احتفظ بطابعه العمراني مع مرفقات عصرية توثق سيرة القصيبي ، شعره وحكاياته ومقتنياته ومقهى صغير للمناسبات الثقافية ، كنت أتنقل في زوايا المتحف من طابقين مأخوذاً بسحر الشخصية التي ما زالت متوهجة في واقع الناس وسخية في ذاكرة الأيام ، وقد حاز من التقدير في حياته وبعد مماته ما يحسد المرء عليه ، وما كان ليكون له ذلك لولا جدارته واستحقاقه .
لدى البحرين مجموعة من المولات التجارية ومراكز التسويق الكبيرة ومن بينها " الافينيوز " الذي بني حديثاً على حافة بحيرة صناعية ، ومحيط البحيرة مملوء بالفنادق والممشى المفتوح والمراكز المتفرقة التي بنيت حديثاً ضمن عمليات تطوير البحرين وزيادة عصرنة واقعها .
قبل توديع البحرين ، تخيّرت تناول وجبة الغداء وقضاء بعض الوقت في مطعم ومقهى يليق بلحظات الوداع ، وبالفعل تناولت وجبة غداء وأكواب القهوة على وقع قطرات المطر الخفيف فيما السماء ملبدة بالغيوم والأجواء ساحرة ، وكانت أفضل توديعة متوقعة لهذا البلد الوديع والمتطلع إلى زيادة حضوره السياحي والاقتصادي والثقافي رغم كل الهنّات والاضطرابات التي تهدده في محيطه الإقليمي والدولي ، حفظ الله البحرين وملكها وأهلها ومستقبلها وزادها رفعة واستقراراً وحداثة .
تعليقات
إرسال تعليق