في طريقنا إلى المدينة المنورة ، قافلين من مكة المكرمة بعد أداء شعائر العمرة المباركة ، مع مجموعة من أحباب القلب والوقت يقترب من منتصف الليل ، يطوينا شوق كبير إلى ديار المصطفى الحبيب .
أغلبنا لم يزر تلك البقاع الطاهرة منذ سنوات ، في طريقنا بدأ البرد يستقبلنا بطريقته الخاصة ، يتسرب بهدوء إلى عظامنا ولكن حرارة الشوق والانتظار تنشر الدفء في أعماقنا .
لوحات الطريق تسلينا ونحن نسابق النظر إلى أعداد الكيلوات المتبقية للوصول إلى حيث المدينة المنورة ، عبق التاريخ الذي تشبعنا بأخباره وأنواره يضوع في المكان ، صور الملاحم ومشاهد الحياة النبوية تتقافز في أذهاننا ، نحن في الطريق إلى حيث البدايات الساحرة لتاريخنا ، ذلك البرود الهستيري الذي يعانيه " السعوديون " تجاه البقاع التاريخية يقتل اتصالنا بالتاريخ يبدد إحساسنا المفعم بالانتماء إلى هذا الدين وكل أشيائه الباقية والدارسة .
وصلنا .. وفي البدء كان مسجد قباء يمد مآذنه إلى السماء ، متصلاً بالملكوت الذي بعث بالرسالة والأمانة ، تتهادى إلى مسامعي لحظة بنائه وتنادي الصحابة ونبينا الكريم لاستكماله وتشييده ، شريط الأيام يمرّ متعجلاً إلى هذه اللحظة التي تنتشر المصابيح الوضاءة من حوله والناس تفد إليه منذ آلاف السنين .
هل كان يدور في خلد واحد ممن بناه ! أن تلك اللحظة التاريخية التي عاشها ستكون عصية على النسيان ، ستفي له الأرض بكل حبة عرق سالت من أعلاه وانسكبت في الأرض مسجداً شامخاً إلى يوم الناس هذا ؟
نقترب أكثر من مسجد رسول الله ، الليل يزحف باتجاه الفجر ، والصبح يلملم عدته ويجمع خيوط إشراقه لينشر ضياه في أصقاع المدينة ، هدوء عميق يخيّم على المدينة ، أعداد من الناس تمشي في سكينة إلى المسجد ، تستعد لصلاة الفجر ، بعجل اخترنا مكان المبيت ، بقيت ساعات قليلة على الصلاة ، على موعد اللقاء ، على السلام على رسول الله وصاحبيه ، سويعات ونتشرف بالوفود إلى مسجد الرسول وقبره المهيب .
ورفع الأذان ...!
أصوات الخطى إلى المسجد تختلط بحديث المشتاقين إلى الصلاة في مسجد رسول الله ، اختطفتنا لحظة اللقاء ، غاب الذهن في غمرة المشهد السخي بالمشاعر ، طغى الإحساس العميق على سطحية التعبير ، وانخرط القلب في صلاته ، وأطبقت العيون أجفانها لأن النظر يشتت القلب ويبدد اللحظة الغامرة ، اغتسلت الروح من أدران التعلق العبثي ، انسكبت على الذاكرة أيام التاريخ العظيمة التي صنعت المجد ، تصعّدت النفس إلى مراقي السمو وتجلت معاني الحق .
انتهت الصلاة .
على اليمين يتكوم الناس في طوابير الانتظار للسلام على رسول الله وصاحبيه ، سيل من البشر لا تدرك منبعه ولا منتهاه ، وكأن الأرض تلدهم للتو ثم تبعثهم في سلسلة متصلة لا تنقطع إلا بانطواء الأرض وانتهاء الزمان ، يبدو أن الناس تختلف في تقدير معاني هذه الزيارة ومرامي السلام ، فمن طالب للمدد بمعناه الصوفي الحاد ، إلى عامي بسيط متعلق بدينه ، إلى مديني متأنق يزور حقبة تاريخية للفرجة ، إلى سلفي جاف جاء لطلب الأجر وسواهم .
في الروضة وما جاورها حلقات للذكر الجماعي وتلاوة القرآن ، وفي زحمة الناس يند شبان في عمر الزهور يقلبون كتبهم المثقلة للدراسة والحفظ والتحقيق ، إنهم طلبة العلم الشرعي الذين يقضون الساعات هنا للدراسة والمراجعة ، يتنافسون ويتبادلون مهام تصحيح الحفظ ، في زاوية هذا التجمع الدراسي يتمدد شاب ملتحي يضع رأسه على الحائط ويغط في سبات عميق وعلى جانبه يضع كتبه ومذكراته ، يبدو عليه الإجهاد ورهق الدراسة ، لعله يتحين أوقات الفراغ للنوم والاستراحة أو لعله يستلذ بأحلام المجد إلى حين يرتاح الجسد ثم يستأنف رحلته الشاقة لبلوغ المجد والترقي في سلم العلم ، إنها صورة ملهمة حقاً ، كم بين النوم واليقظة من خيوط المجد الرفيعة ؟ كم تعطي واقعك من ساعات يومك ؟ وكم تعطي أحلامك ؟ فكّر جيداً .
على اليسار روضة من رياض الجنة ، يتعاركون عند المدخل ويتدافعون عند المخرج ، العسكر يجاهدون للحفاظ على ما تبقى من النظام ، والناس تؤدي صلاتها في عجل تحت إلحاح المتدفقين وتدافعهم ، دموع الصدق تنسكب ولكنها أبداً ليست من دموع الزيف في شيء ، رجل سوداني يرفع يديه إلى السماء ويتوجه إلى القبر لحظة وإلى القبلة لحظة أخرى في ثنائية تستفز رجل الدين السلفي الذي يسوق الناس من أمام القبر .
خرجنا من عنق الزيارة ، السلام على رسول الله وصاحبيه لحظة تاريخية لا توصف ، وموقف تعبدي لا نتدخل في صرف ثواباته ، عندما تحاذي تلك القبور يبادرك إحساس بالتقصير تجاه نفسك ودينك وأمتك ، شخص واحد بمعيّة أصحابه الصادقين يغير التاريخ ، يمد جسور الإيمان بين الأرض والسماء ، ينقل البشرية من ظلمة العصيان إلى نور الإيمان ، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
على بعد أمتار تقع مقبرة البقيع ، تحتضن عشرة آلاف قبر لصحابة رسول الله وزوجاته ، أجسادهم أودعت تلك البقعة من الأرض ، وذكرهم يطوف كالرواحل من جيل إلى آخر ومن عصر إلى ما يليه ، عندما تشرف على قبورهم ، يغرقك شعور بالفخر يخالطه شعور بالعظمة والكبرياء وقليل من مشاعر مجهولة غير مفهومة ، يبدو أنه صورة من تخاطر الأرواح ، شيء منك يسكن هذه الأرض ، شعور أصيل بالانتماء إلى تربة هذا المكان ، تاريخك ودينك وهويتك تراها مجلوة في كل ذرة من هذا الثرى البقيعي الشريف .
مهابة الموت تجثم على أطراف المكان ، إنهم صحابة رسول الله ، بناة المجد ، وأصحاب السبق والمغفور لهم ، لم يستثنيهم الموت ولم تتأخر ساعتهم أو تتقدم ، هذا المكان نهاية كل حيّ ، ولكن النهايات لا تتشابه عادة .
إنهم عظماء درجوا على الأرض ، حياتهم لم تكن عادية ، كم تحتاج من التفكير الجاد والعمل الدؤوب لتصبح نهايتك مشرفة ، حياتك تحدد مؤشر نهايتك ، جسدك تنتهي ساعته عند هذه الحفرة الضيقة ، لكن تاريخك يقف على مشوار حياتك العريض ، فكّر جيداً !
مجاميع من الشيعة الإيرانيين ينتشرون بصورة ملفتة في المقبرة ، ملابسهم الإفرنجية وشيخهم المعمم يتقدمهم ويوردهم المقابر والآثار التي تواتر لديهم أصحابها ورجح عندهم طرف من الظن بمعرفتها ، في المقابل يتحفز رجال الضبط الديني " الهيئة " لملاقاتهم ومناقشتهم ، كثيراً ما يتكرر مشهد المجادلة العقيم في أنحاء المقبرة ، لكل معمم أو " مشمغ " جمهوره الذي يناصره ويشايعه في صورة قطيعية مؤسفة .
تبدو المباراة الجدلية هنا سلمية كتعبير حضاري ولكنها عبثية في النهاية .
على طرف قبر بارز يشاع عن كونه قبر للجليل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أخذ الشيخ المناوب هناك على تفنيد هذه الشائعة وتكذيبها ، أدلى بحججه علينا وما كاد يختتم كلامه حتى جذبنا شاب ثلاثيني يتحدث بلهجة حضرمية واضحة ولغة شرعية وعلمية ظاهرة ، وأخذ يسهب في نقد المشايخ الرسميين الذين ينتشرون في المقبرة وأنهم يتعمدون إخفاء معالم قبور الصحابة وأصحابها ، ولما عرضت بين يديه مخاوفهم السلفية التقليدية ساق ردوده المعتادة ، ثم اعتذر لنا عن الجرأة لمحادثتنا لولا ارتياحه للكلام معنا .
في طريقنا للخروج ، استوققني منظر رجل منحني الظهر والشيب يعلو ذقنه وحاجبيه والتجاعيد القاسية تتمدد في وجهه النحيل ، يرمق القبور بهلع ظاهر ، لونه مخطوف وملامحه مشدوده ، لعله يعرف جيداً أن ما تبقى من عمره ليس بأكثر مما ذهب ، وهو أقرب لهذا المكان من سواه ، وأجله يدنو إليه مهرولاً ، جلس الرجل على رصيف المقبرة ، تركه مرافقه لبرهة ، تركه نهباً لهذه اللحظة المروعة ، يبدو أنه يزن سنواته التي قضاها على ظهر الأرض ، يرجح بين العذاب والعفو ، بين العبور إلى جنة عرضها السماوات والأرض أو المكوث في قعر جهنم ، يكتوي الرجل بهذه اللحظة ، يتلوى من قلة الحيلة وفوات الوقت ، ماذا لو أنه عاش هذه اللحظة أيام شبابه ؟ ربما تتغير كثير من الأشياء وتنقلب حياته رأساً على عقب .
في مدينة رسول الله ، التدين له تفسير جغرافي ، بمعنى أن الثقافة الاجتماعية الغالبة والحالة الاقتصادية والمستوى السياسي يطبع آثاره على شكل التدين في حديته وانبساطه ، في انحرافه وانتصافه ، في رحابته وضيقه ، الباكستانيون والأتراك بإيمانهم الطاغي وتدينهم العميق ينجرفون في تعبدهم وتعلقهم ، الإيرانيون بتشيعهم السياسي يزاحمون سواهم ويغلظون في إظهار معتقداتهم ، والسعوديون يخضعون للرأي الديني الذي اختارته الدولة ، والهنود والسودانيون تغلب عليهم الرقة في تعبدهم وتصوفهم .
في طريق خروجنا تصادفك البسطات العفوية التي تنتشر في باحة المسجد النبوي ، باعة متجولون ، يلفت نظرنا طفلة في السابعة من عمرها فيما يظهر تناغي لعبتها البلاستيكية وتنتظر زبائنها لتبيعهم خردواتها المتواضعة ، عندما تتفحص عينيها تخاطبك بألم ، تهجو زمانها وحظها العاثر ، تؤنبك لأنك تمر بكل بساطة وأنت تتجاهل هذه الصورة الخاطئة في ترتيب البشرية ، تتداعى إلى مسامعك وصايا النبي الرؤوم للعناية بهذه الأرواح الغضة الطرية ، تشعر بالذنب لأنك لا تملك أن تغير شيئاً في هذه الحالة ، ثم تغيب في زحمة المارة .
جمعنا أمرنا لزيارة ما تبقى من معالم وآثار ومساجد المدينة المنورة الزاخرة ، أغزر ما يلفت نظرك أعداد الكاميرات والفلاشات والصور التي تلتقط في هذه الأمكنة والبقاع ، حتى أن رجلاً أبلهاً جلس فوق قبر في البقيع لالتقاط صورة تذكارية ، نهره رجل باكستاني ضخم وكاد ينهال عليه ضرباً لولا لطف الله وعنايته .
استقالت الذاكرة البشرية عن وصف المواقف واللحظات وقامت الكاميرات مقامها ، تراجع التعبير الإنساني والوصف اللساني لتجسيد اللحظات الآسرة عند العودة واكتفى الإنسان بتعبير الصورة وكفاءتها ، الآلة تزاحم الإنسان بجنون في يومياته ، كم يترك هذا التصرف من عاقبة سيئة للإنسان ولتاريخه ومستقبله ووجوده على هذا الكون ، هل سيندم كثيراً عندما يعطل أدواته الطبيعية ويمنحها إجازة طويلة بدون عمل ويسرف في استخدام الآلات والأجهزة التعويضية الصناعية .
المستقبل يحمل نذر شؤم لهذا الكون ولصاحبه الإنسان .. والله المستعان !
صور :
تعليقات
إرسال تعليق