التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إذ لا يستقيم العلم






برغم أن الثورة النزيهة ثم الحرب الكريهة في بلاد الشام لها خلطة معقدة ومشتبكة من الأسباب والأسرار ، ولكن هذا المشهد المؤسف يفسر عندي " بعض " أسباب ما يحدث في سوريا .
وهو - كما نُقل - لابن أحد ضباط النظام يرقص أثناء الدرس غير آبه بمعلمته ، وزملاؤه غارقون في الضحك ، ويلتقطون صورة لهذه المسرحية الهزلية وكوميديا الواقع السوداء .
وكما نقل لنا أيضاً ، فإن ابن الضابط آمِن من كل عقوبة ، لأنه ينتمي إلى طيف القابضين على البلد ، حيث صاحب الكرسي وحاشيته هم المقدم على كل معنى وأحد ، ولا يجرؤ مخلوق على مطاولتهم بلوم أو عتب .
وفوق جريمة هذا الشاب في حق العلم وجنابه ، فإنه انتهك مقام هذه المرأة وهي في مثابة والدته المصونة ، وهي تحاول أمامه أن تبتلع بكل مضض مشهد إهانتها وانتقاص قدرها دون إبداء ردة فعل ، لأن هذا الصبي المنفلت أهم من علمها ومقامها ، وربما بلدها كله بشجره وحجره وبشره .
ولعلك رأيت سيدي العربي - غير المكترث - في بحر المقاطع التي تحتشد في هاتفك ببرود ، أفظع من هذا المقطع التافه ، وما هو أنكى في أمر إخوتنا السوريين المستضعفين ، ولكن هذا المقطع وحده استوقف بصري المنكسف وذهني المعتكف .
وهو يختصر هول العبث الذي استشرى في قيم هذه الأمة الآفلة تقريباً إلا من عصبة المستيقظين ، وهو عبث قيمي ليس ما تراه في مثل هذه المقاطع إلا طفح جلدي يشير إلى بعض ما يختلج في باطن الأمة ويتأجج في ضميرها من قيح وتشوه وانتكاس .
وإذا فرشت باطن الأرض بهذا المستوى من الإسفاف والعبث بالقيم كان ذلك تمهيداً لكل المفاسد وتبييئاً لكل المثالب وليس " الاستبداد " إلا واحداً من المظاهر الفاضحة لحال الأمة وواقعها .
لو كان " ابن خلدون " حياً لفرك عينيه طويلاً قبل أن يشرع في تدبيج مقدمة جديدة تشرح طرائق مبتدعة ومسالك مفتظعة عن انهيار الأمم وتهاوي الحضارات .
ولعل هذا المقطع لا يستحق الذكر أمام مشاهد الدماء أو الغرق في لجج الماء ، لكنه عندي أشد هولاً وأصدق قولاً عن أصل البلاء وذهاب العافية .
ذلك لأن أمثال هذه المواقف الغاصة بالأسف تتكرر في بلاد نعتقدها مستقرة ، ذهب فيها وقار العلم ومنزلة الكبير في النفوس واستمرأ الناس فيها استضعاف الخلق والتطاول على المبادئ واخترام الحدود ونهب الحقوق ، وهذا كله مؤداه إلى التهلكة التي تأخذ صوراً متعددة وأشكالاً متنوعة وليست الحرب الأهلية إلا واحدة من الالتحامات الحتمية نتيجة تعقيد الواقع واضطراب الأولويات .
ولو أراد مستبد أن يمد في عمر قبضته على خناق الكرسي ومكثه على صدر الشعوب ، ما وجد أفضل ولا أسهل من لعبة العبث بقيم المجتمع المشيدة وخلخلة أركان أخلاقه الشديدة " فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا " .
وسواء جاء ذلك بسبيل الفحش في الظلم والاستبداد ، أو الترف وتمييع القيم : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) ، ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .
ثم إذا هوى عماد القيم انهدم البنيان على ساكنيه وكان من بعده الطوفان الذي يأتي على كل شيء ، ثم لا يستنكر الشيء من محله ، فإذا بدأ الأمر بذوبان العدل كان ما لحقه أفحش وأشنع وأفظع ، من الإسراف في تضييع الحقوق والإيغال في الدماء المحرمة .
" القيم " أقصد بها تلك الراشدة القارّة في وجدان البشرية ، وفي رأس هرمها العدل ، وليست تلك التي تجترّ المجتمع وتشده إلى التخلف وتؤسس لرجعيته انتصاراً لأمراضه المجتمعية ، أو تزاحم نموه باسم خرافة الأصالة .
إن نكوص القيم وفساد المثل أول الخطو في نفق الضياع ، وهو مهنة المستبدين ومآل الخانعين ، فالأول يفترشه لطريق المجد المؤبد ، والآخر يعانيه جزاء السكوت عن الحق واستمراء البغي ، وإلا فإن الأمم الحية بامتداد " المصلحين والمجددين " والراسخة بمهابة القيم والاستنصار للحق ومد جسور العدل ، يصان حالها ويدوم ظلها .
لأن القشعريرة من الظلم وانحراف القيم دليل حياة الجسد ، وابتلاع غصصه أول المرض ، والتباطؤ في استنكاره يحرّض الطبيعة على النقمة ، وكلما أشربت الأرض ظلماً وطال العهد على الامتعاض منه جاءت العقوبة مضاعفة والتطهّر ماحقاً .
حفظ الله بلاد المسلمين وقيمها وأمر رشدها من كل سوء .



الرابط : 

تعليقات

  1. مكتب محمد الحسينى المحامى بالاستئناف العالى فون واتساب 00201203270033
    محامى مصرى معتمد
    تسجيل وتوثيق العقود بكافة اشكالها
    عقود شركات- عقود تجارية-عقود التوظيف
    توثيق عقود العقارات وتسجيلها ونقل ملكيه العقارات بالشهر العقارى والمحكمة
    توثيق عقود زواج الاجانب لكافة الجنسيات..
    - صياغة وتعديل كاقة انواع العقود والاشراف على تعاقدها
    تاسيس الشركات الفردية وشركات التضامن وذات المسئولية المحدودة و استخراج البطاقة الضريبية والسجلات التجارية لكافة الانشطه سواء شركات او افراد
    زوروا موقعى

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...